يواجه السودان مأزقا سياسيا دوليا خطيرا في الوقت الحاضر بسبب ما يتعرض له من تهديدات امريكية ودولية بفرض المزيد من العقوبات عليه واحتمالات استخدام الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة بفرض عقوبات عسكرية في حالة تمسك الدول الاعضاء في مجلس الامن بوجود انتهاكات واسعة لحقوق الانسان في دارفور ورفض حكومة السودان التعاون مع المجتمع الدولي برفضها تسليم المتهمين المطلوبين للمحاكمة الدولية وهما احمد هارون وزير الدولة للشئون الانسانية السوداني وعلي كوشيب احد قادة الجنجويد لمحاكمتهما بتهم ارتكاب جرائم ضد الانسانية في دارفور بالاضافة الي 51 متهما ثم تسليم قائمة باسمائهم الي المحكمة من مجلس الامن الدولي ومن بينهم بعض كبار المسئولين السودانيين. ويحدث ذلك في الوقت الذي لا يزال هناك تعثر في تنفيذ اتفاق نيفاشا الذي انهي صراعا دام بين الجنوب والشمال السوداني لمدة 21 سنة من الحرب الاهلية في الجنوب وتصر حكومة السودان علي رفض ارسال قوات دولية الي إقليم دارفور باعتبار ان اتفاق ابوجه ينص علي نشر قوات افريقية وليست دولية وان المسألة لا تحتاج الي هذا العدد الكبير من الجنود والذي يبلغ 23 الف جندي وفقا لقرار مجلس الامن رقم 1706 ثم جري الاتفاق بعد ذلك علي تخفيض هذا العدد الي ما يتراوح بين 17، 19 الف جندي فقط لوقف ما يسمي بالابادة الجماعية لسكان دارفور واغتصاب النساء والاطفال وكلها مزاعم تمكن الولاياتالمتحدةالامريكية من اتخاذ قرار منفرد بضرب السودان عسكريا في حالة عدم موافقة مجلس الامن علي عمل عسكري ضد السودان، وذلك كما حدث عندما رفض مجلس الامن الموافقة علي غزو العراق وقيام الولاياتالمتحدة منفردة بهذا الغزو، وهو ما يعتبره بعض المراقبين ان حدث تخفيفا من حدة الانتقادات الموجهة الي الرئيس بوش عن فشله في تحقيق اهدافه من غزو العراق وعجزه عن الخروج منها بكرامة. وقد ساعد المناخ الدولي المعادي لموقف الحكومة السودانية علي رفض حركات التمرد الانضمام الي اي اتفاق سلام مع الحكومة السودانية قبل ان تقوم بتسليم المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية خاصة في ظل عدم وجود قواعد عادلة لمحاكمة المتهمين داخل السودان. وتواجه الحكومة السودانية اتهاما بأنها ساعدت ميليشيات الجنجويد وقامت بالمزيد من القصف الجوي وتقليل عمليات الاغاثة الانسانية مما ادي الي زيادة حركة الهجرة والنزوح من الاقليم والذين تقدرهم الاممالمتحدة بحوالي 140 الف شخص منذ بداية عام 2007 فقط، كما ان هناك 566 الف شخص لا تصل اليهم المساعدات الانسانية نتيجة تردي الاوضاع الامنية في الاقليم، وقد دفع ذلك العديد من دعاة السلام في افريقيا الي المطالبة بتحرك المجتمع الدول ضد حكومة السودان لانقاذ المدنيين وحمايتهم طالما ان السلطات الحكومية السودانية لا تستطيع ذلك خاصة وان تصريحات المسئولين فيها تهون من شأن القضية وتزعم بأنها يمكن ان تحل خلال اسابيع قليلة، وان ما يحدث هو مجرد منازعات قبلية محدودة، ومن ثم تجاهل خطورة الموقف وما حدث من خسائر بشرية ومادية تقدر بنحو 700 مليون دولار سنويا يفقدها اقليم دارفور بسبب الاوضاع المتردية والعبثية في الاقليم علي حد تعبير "يان الياسون" مبعوث الامين العام للامم المتحدة لمشكلة اقليم دارفور في حديثه الي الاهرام بتاريخ 26/5/2007 مشيرا الي مأساة الابادة الجماعية التي حدثت في دارفور عام 2003. وفيما يلي نتناول اشكالية الاوضاع المعقدة والمتشابكة في السودان علي النحو التالي: البيئة الداخلية: اولا: خريطة القوي السياسية وجذورها: يسيطر علي الحكم في السودان حاليا حزب المؤتمر الوطني، بينما يسيطر علي جنوب السودان الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي وقعت مع الحكومة السودانية اتفاق سلام عرف باسم "اتفاق نيفاشا" عام 2005 ترتب عليه توقف الحرب في جنوب السودان بعد اكثر من 22 سنة الا ان هذه الاتفاقية وغيرها لم تحقق الشامل حتي الآن وهناك العديد من الميليشيات المسلحة في الجنوب، وبعضها في الخرطوم لا تزال تشكل تحديا كبيرا للامن والسلام في السودان في ظل الصدامات المسلحة التي تحدث بين هذه الميليشيات والحكومة السودانية في الجنوب وفي الخرطوم اودت بحياة العشرات من الضحايا من المواطنين، وتعتبر ميلشيات الجنجويد ابرز ميلشيات الجنوب العاملة في دارفور وتساهم في وجود صراعات مستمرة بين الشمال والجنوب وداخل الشمال ذاته وداخل الجنوب ذاته نتيجة الفقر والحرمان الاجتماعي الذي يؤدي الي تكوينات عرقية وجهوية وبروز الاثنيات العرقية واتجاه كل فريق الي تكوين ميلشيات لحماية نفسها ضد المخاطر والتهديدات التي تتعرض لها من الفرق او العرقيات الاخري ويلاحظ ان أبناء اقليم دارفور هجين بين العرب والافارقة، ومن ثم يجب ان يتوحدوا لحل مشكلاتهم. ثانيا: توزيع الثروة والموارد النفطية: اتجه انتاج السودان من البترول الي الزيادة خلال السنوات الاخيرة بمساعدة شركات حكومية من الصين والهند وماليزيا، وقد بلغ انتاج السودان من النفط الخام نحو 500 الف برميل يوميا مما ساهم في تحقيق نمو اقتصادي ملحوظ وارتفاع معدل نمو الاستثمارات العقارية. وتشير الدراسات الجيولوجية الي وجود حقول بترولية تمتد من جنوب السودان الي جنوب تشاد مرورا بجنوب دارفور، ومن ثم فإن ما يحدث من صراعات بين السودان وتشاد يرجع الي خدمة مصالح الشركات البترولية الكبري التي تريد السيطرة علي النفط في هذه المنطقة بعد ان تم اكتشاف البترول في جنوب تشاد وحصول شركة اكسون الامريكية علي امتياز ضخم ونقل وتسويق عبر خط انابيب يعبر اراضي دولة الكاميرون الي المحيط الاطلنطي بتكلفة قدرها 2.4 مليار دولار. ويري البعض ان مسألة تقسيم الثروة والسلطة يمكن ان يتم الاتفاق عليها من خلال ملتقي سلام حول دارفور يضم كافة القوي السياسية والاجتماعية في الاقليم لتعود الاوضاع فيه الي ما كانت عليه قبل عام 1989 وان تقسم السلطة والثروة بنسبة حجم السكان في دارفور الي اجمالي السكان في السودان. ويجدر الاشارة الي ان اتفاق نيفاشا للسلام قد منح حزب المؤتمر الوطني الحاكم حاليا 52% من السلطة، ومن ثم بدت الحاجة ماسة الي اعادة النظر في هذه النسبة بعد التفاوض مع القوي السياسية والعرقية في دارفور. ويلاحظ ان اقليم دارفور يعاني من نقص المياه واتجاه الاراضي الزراعية فيه الي التآكل بنسبة 10 كم سنويا بسبب التصحر والجفاف وتوقف نزول الامطار لفترات طويلة مما يؤدي الي حدوث منازعات بين الفصائل المختلفة داخل اقليم دارفور علي المياه وعلي المراعي. ثالثا: الازمات الداخلية: 1 جنوب السودان واتفاقا نيفاشا 2003، وابوجا كنموذج لحل مشاكل باقي السودان. سبق لنا الاشارة الي ان الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق وقعت اتفاق سلام مع الحكومة السودانية لتحقيق السلام في الجنوب ومشاركته في سلطة الحكم وهو ما يعرف باتفاق نيفاشا والذي ادي الي توقف الاعمال العسكرية والعدائية بين الجنوب والشمال وبين الحركة الشعبية والحكومة السودانية، وبناء علي هذا الاتفاق وافقت الحركة الشعبية علي ان يحصل حزب المؤتمر الوطني السوداني الحاكم علي نسبة 52% من السلطة كما سبق القول. ورغم الهدوء وانتهاء الحرب المسلحة بين الطرفين الا ان الاتفاق لم يتم تنفيذه بالكامل، وهو ما يتطلب اعادة التفاوض مع الجنوب لتعزيز خيار الوحدة بعيدا عن خيار الانفصال، ولا يزال هذا الاتفاق رغم ذلك مرجعا لما يراد تطبيقه لحل ازمة دارفور. ولا يخفي اهمية توسيع نطاق اتفاق ابوجا بحيث يضم كافة ابناء وفصائل التمرد للمشاركة في وضع ترتيبات تحقق السلام والاستقرار وانتهاء العنف المسلح، واقتسام السلطة والثروة والترتيبات الامنية ويعني ذلك ان اتفاق ابوجا لا يزال صامدا وباقيا في جوهره ويحتاج فقط الي توسيع النطاق لضمان مشاركة كافة الاطراف المعنية بأزمة دارفور، وقد اجتمعت في الخرطوم اللجنة المشتركة لوقت اطلاق النار في دارفور برئاسة بعثة الاتحاد الافريقي بالسودان وبحضور كافة الاطراف الموقعة علي اتفاق ابوجا، ومشاركة ممثلي الاممالمتحدة وجامعة الدول العربية وكندا وفرنسا وليبيا ومصر والولاياتالمتحدةالامريكية وذلك لمناقشة جميع الخروقات التي حدثت للاتفاق خلال الفترة الماضية من جانب الاطراف الموقعة علي الاتفاق فيما يتعلق بالخطط الخاصة بنزع السلاح وتحديد مواقع المقاتلين من الحركات المسلحة بالاضافة الي الاجراءات الخاصة بدمج القوات وفقا لنصوص الترتيبات الامنية الواردة في الاتفاق. 2 دارفور الجذور والتطورات وآفاق والحسم: يعاني اقليم دارفور من اضطرابات عسكرية من جانب الميليشيات المسلحة والتي ترتب عليها هجرة ونزوح الاف المواطنين من الاقليم والاقامة في مخيمات بعيدا عن مناطق العنف والصراعات المسلحة غير انهم يعانون في هذه المخيمات من نقص الغذاء وانتشار الامراض وتدهور مستوي المعيشة. وتسيطر علي الاقليم ميلشيات الجنجويد المسلحة ذات الاصول الافريقية والتي تعمل علي ابادة وطرد بقية السكان في دارفور ولم تفلح حكومة السودان في ارغامها علي وقت القتال والعنف ضد السكان واعمال الابادة مما جعل هناك اتهامات دولية لحكومة السودان بمساعدتها للفصائل المسلحة من الجنجويد ضد السكان في الاقليم خاصة بعد ان قامت الحكومة السودانية بغارات جوية في شمال اقليم دارفور خلال شهري ابريل ومايو 2007 ومن هنا جاءت تهديدات وضغوط الولاياتالمتحدة وبريطانيا علي حكومة السودان بفرض عقوبات اقتصادية والتهديد بزيادة العقوبات وفرض حظر الطيران فوق اقليم دارفور، والاتجاه الي تطوير مطار في تشاد قرب الحدود مع السودان لكي تستخدمه قوات حلف الناتو والاممالمتحدة والمنظمات الانسانية للانطلاق الي دارفور وتتفق كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا ومعظم دول الاتحاد الاوروبي علي ضرورة نشر قوة مشتركة من منظمة الاممالمتحدة والاتحاد الافريقي في اقليم دارفور وعودة الاستقرار الي الاقليم خاصة علي الحدود التشادية السودانية. وقد ذكرت مصادر الاممالمتحدة ان حزمة الدعم الثقيل من جانب المنظمة لبعثة الاتحاد الافريقي بدارفور ستكلف الاممالمتحدة نحو 300 مليون دولار في الستة شهور الاولي. 3 شرق السودان مفتاح الحل لازمة الغرب "دارفور": اعلن مستشار الرئيس السوداني ان العلاقات السودانية التشادية وتطبيعها عامل اساس في معالجة قضية دارفور مشيرا الي الجهود التي تبذلها اريتريا في هذا المجال للدفع بالحل السياسي السلمي للازمة واشتراك كافة الفصائل المتصارعة في الاقليم في اتفاق السلام خاصة الفصائل التي لم تشارك في اتفاق ابوجا، والفصائل الغاضبة بسبب وصف السفير السوداني في واشنطن لها بأنها حركات ارهابية حيث اعلنت انها لن تذهب الي جوبا لعرض رؤيتها التفاوضية بدعوة من الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي ينتمي اليها السفير ومن ثم فقد جري تأجيل المؤتمر. وقد اعلن الصادق المهدي ان اتفاق شرق السودان هو مجرد تفاهم بين الحكومة السودانية وحكومة اريتريا، وان اهل الشرق الحقيقيين لم يشاركوا فيه ومن ثم فإن مشاركة اهل الشرق تعتبر ضرورية لتحقيق السلام.