وعد الجنرال "ديفيد بيترايوس" قائد القوات الأمريكية في العراق بالعودة إلي واشنطن في سبتمبر المقبل لتقديم تقرير عن حصيلة استراتيجية زيادة القوات، وما أدت إليه. وآمل بالطبع أن يأتي الجنرال ليقول إن عمليات القتل الطائفي والخسائر البشرية الأمريكية قد انخفضت، ولكن حتي لو افترضنا أنه قد قال ذلك، فإنني أشك في أن يتمكن من تحديد موعد واضح ومقنع تصبح فيه قوات الجيش وقوات الأمن العراقية قادرة علي الاعتماد علي نفسها دونما حاجة للدعم الأمريكي الضخم، الذي تحصل عليه في الوقت الراهن. لذلك فإنه وبصرف النظر عما سيقوله الجنرال، فإن الأمر المقدر، هو أننا سندخل موسم الانتخابات الرئاسية، دون أن يكون لدينا تاريخ موثوق به للخروج الأمريكي من العراق. خلال السنوات الأربع ونيف، التي انقضت منذ اندلاع الحرب في العراق، كانت هناك منعطفات لا حصر لها استدرجنا فيها لتوقع حدوث تقدم سياسي حاسم في العراق، منها علي سبيل المثال القبض علي صدام حسين (ديسمبر 2003)، نقل السيادة للعراقيين (يونيو 2004)، انتخابات الجمعية التأسيسية (يونيو 2005)، الاستفتاء علي الدستور (أغسطس 2005)، وانتخابات البرلمان العراقي (ديسمبر 2005). وكانت زيادة القوات في العراق هي الورقة الوحيدة التي اضطررنا إلي استخدامها مؤخراً بيد أن زيف هذه الاستراتيجية سرعان ما سيتم اكتشافه. من وجهة نظري، ليس هناك سوي حالة واحدة يمكننا من خلالها سحب قواتنا من العراق، مع المحافظة في ذات الوقت علي الحماية الكاملة لمصالحنا الجوهرية، وعلي ادعاء معقول بأن مهمتنا قد أنجزت، وهي عندما تبرز قوات عسكرية وشُرَطية عراقية قوية لديها القدرة علي العمل بشكل مستقل عن القوات الأمريكية وعلي الحيلولة دون استيلاء "القاعدة"، أو المتمردين "البعثيين"، أو ميليشيا مقتدي الصدر علي البلاد. يجب ألا نخدع أنفسنا. فموقفنا اليوم من بعض النواحي أسوأ بكثير من الموقف الذي واجهه نيكسون في فيتنام منذ 35 عاماً. في ذلك الوقت كان لدي فيتنام الجنوبية جيش، قوامه علي الورق مليون جندي، كان قادراً علي الرغم من كل المشكلات التي تواجهه علي الصمود لمدة ثلاثة أعوام بعد انسحاب القوات البرية الأمريكية. ووفر الجيش الفيتنامي في ذلك الوقت ل"هنري كيسنجر" ما عرف في ذلك الوقت ب"الفاصل الزمني اللائق" بين خروج القوات الأمريكية وسقوط فيتنام الجنوبية. (في الواقع أن "كيسنجر" قد جادل بشكل مقنع إلي حد ما بأنه كان بمقدور الفيتناميين الجنوبيين أن يصمدوا إلي لأبد، لو لم يقم الكونجرس الأمريكي بقطع التمويل الذي كان مخصصاً للإسناد الجوي الأمريكي لفيتنام). لا يوجد في الوقت الراهن ولن يوجد مستقبلاً شيء ذا معني سياسي مشابه لذلك في العراق. ابتداء من نوفمبر الماضي زعمت وزارة الدفاع الأمريكية أنها دربت 322 ألف جندي تابعين للقوات المسلحة والشرطة، ولكنها أقرت في الوقت ذاته بأن العدد الفعلي المتاح، يقل عن ذلك كثيراً بسبب الهروب والاستنزاف. كما يشار في هذا السياق إلي أن القوات العراقية ما فتئت تعاني من عجز هائل في الدروع والأسلحة والإمداد والتموين والاتصالات، وليس من الواضح كيف سيمكن لتلك القوات أن تقوم بمهامها دون وجود قوات أمريكية تأخذ بيدها. لقد بدأ تدريب القوات العراقية متأخراً، ولم يحظَ هذا التدريب بتمويل كافٍ، ولا باهتمام من المستويات العليا علي الرغم مما يقال إن "بيترايوس"نفسه كان هو الرجل الذي تولي إدارة دفة الجهد التدريبي في السنوات الأخيرة. خروج آمن ما يعنيه كل هذا هو أنه حتي لو أدت زيادة القوات إلي تخفيض مستوي العنف في العراق بدرجة ما، فإنه لن يضمن خروجاً "آمناً" للقوات الأمريكية. هنا تكمن المشكلة فيما يمكن تلخيصه من خلال هذا السؤال: هل هناك أمامنا خيار آخر غير الانسحاب؟ هناك خيار مواصلة البقاء في العراق. وأظن أننا قادرون علي تجنب الخسارة في العراق لمدة خمس أو عشر أو خمس عشرة سنة قادمة، طالما ظلت لدينا الرغبة في المحافظة علي وجود مستويات عالية من القوات، وطالما ظللنا قادرين علي تحمل خسارة كبيرة في المال والدم. علي الرغم من ذلك، فإن أكثر المرشحين "الجمهوريين" لمنصب الرئيس "محافظةً" لا يمكنه أن يخوض حملة انتخابية علي أجندة تقوم علي إبقاء القوات الأمريكية في العراق إلي ما لا نهاية، خصوصاً عندما تبدأ المرحلة الأولي من الموسم الانتخابي في الشتاء القادم، الذي ستدخل فيه حرب العراق عامها السادس. وهذا يعني أننا سنجد أنفسنا مضطرين إلي الدخول في سجال مختلف تماماً عن السجال، الذي كنا منخرطين فيه حتي الآن. وهذا السجال لن يدور حول زيادة عدد القوات، ولا عن الانسحاب بعد أن تكون أهدافنا قد تحققت، وإنما عن الكيفية التي يمكننا بها تخفيض عدد قواتنا بطريقة تؤدي إلي تقليص أكلافنا إلي أدني حد، وهو ما سيرافق حتماً فقداننا للسيطرة. وهذا الموقف صعب غير أنه ضروري. والأسئلة التي نحتاج إلي تناولها في هذا السياق هي: كيف نعيد تصميم قواتنا بحيث تصبح قادرة علي تقديم الاستشارة والتدريب والدعم بدلاً من الاشتراك المباشر في القتال؟ كيف يمكننا الانسحاب دون وجود جيش عراقي لديه القدرة والجدية علي تغطية انسحابنا؟ كيف سنفكك القواعد الضخمة التي أقمناها في العراق مثل قاعدة "كامب ليبرتي" وقاعدة "كامب فيكتوري"، ونحمي العدد المتناقص دوماً من القوات الأمريكية الموجود في البلاد؟ هل نمتلك الثقة الكافية في القوات المسلحة والشرطة العراقية التي تجعلنا نقوم بتسليمهم معداتنا؟ كيف يمكننا حماية حياة الذين تعاونوا معنا؟ إن منظر حلفائنا من المواطنين الفيتناميين وهم يتعلقون بالأجزاء البارزة من بدن آخر طائرة هيلوكوبتر أمريكية تغادر فيتنام من أمام مبني سفارتنا في العاصمة "سايجون" هو منظر يجب أن نستدعيه إلي ذاكرتنا في هذا الشأن. ماذا سيحدث؟ وهناك سؤال آخر أيضاً وهو: ماذا يمكن أن يحدث لو تهاوت الحكومة العراقية الضعيفة التي سنتركها وراءنا أو حدثت كارثة سياسية أخري في حين أن عدد القوات الأمريكية التي يمكنها أن تتعامل مع ذلك قد أصبح أقل؟ هل يمكننا في حالة مثل هذه أن نستخدم وكلاء أو نرسل موارد أو إمدادات أسلحة لصياغة شكل المحصلة النهائية، التي ستنتج عن ذلك. في الوقت نفسه الذي سنقوم فيه بتخفيض عدد القوات، فإن المرجح هو أن تتفاقم الحرب الأهلية ويصبح جل اهتمامنا في ذلك الوقت هو العمل علي احتواء تلك الحرب داخل حدود العراق، وهو ما يعني أن الحيلولة دون تدخل قوي أجنبية في هذه الحرب، سيتحول إلي أولوية أكثر عَجَلة مما هي الآن. من ناحية أخري، فإن الحالة القائمة في العراق الآن ليست بالضرورة هي تلك الحالة التي يخرج فيها الأمر عن نطاق السيطرة. فعلي رغم أن الوضع في العراق أكثر خطورة من الوضع الذي كان قائماً في فيتنام من بعض النواحي، وأفضل من نواحٍ أخري. وعلي رغم أنه لا يوجد لدينا جيش عراقي معادل للجيش الفيتنامي الجنوبي، فإن عدونا في نفس الوقت لا يعادل في قوته وخطورته جيش فيتنام الشمالية. علاوة علي ذلك، فإنه من الصعب رؤية أي فصيل من الفصائل التي تتصارع مع بعضها بعضاً من أجل السلطة والنفوذ في العراق باعتباره القوة المهيمنة علي العراق. وجود القوات المسلحة الأمريكية شكل في حد ذاته حافزاً لتجنيد الإرهابيين، ولكن عندما يصبح واضحاً للعراقيين أننا في طريقنا للخروج فإنه سيكون من السهل علي الوطنيين منهم في تلك الحالة الانقلاب علي الجهاديين الأجانب (وهو ما بدأ يحدث بالفعل في محافظة الأنبار). الحرب الأهلية المتفاقمة ستكون مأساة بالنسبة للعراق، ولكنها لن تكون المحصلة الأسوأ من وجهة نظر الولاياتالمتحدة أن تنخرط بعض الفصائل التي تكن عداءً شديداً للأمريكيين في صراع شرس فيما بينها. إن الحروب الأهلية تنتهي عندما ينتصر طرف من الأطراف علي الباقين (من غير المرجح أن يحدث هذا في الحالة العراقية) أو عندما تستنزف الجماعات المتحاربة نفسها أو تتخلي عن المغالاة في أهدافها. إننا لم نخسر الحرب علي الرغم من التأكيد الذي ساقه في هذا الخصوص "هاري ريد" رئيس الأغلبية بمجلس الشيوخ الأمريكي ("ديمقراطي" من ولاية نيفادا)، ولكن النصر ليس قريب المنال أيضاً. وهو ما يعني أننا بحاجة إلي تصور الطريقة التي يمكننا بها الخروج من هذه المنطقة الشديدة التعقيد الآن.