في الوقت الذي تتعاظم فيه العلاقات المصرية الألمانية علي جميع المستويات.. بل تزداد قوتها يوما بعد يوم بما يحكمها في مواقف سياسية واقتصادية وثقافية عميقة.. في إطار تعاون مشترك وزيارات رسمية متبادلة.. وتفهم وتفاهم للدولتين حول قضايا المنطقة بصفة عامة.. وخصوصية العلاقات المصرية الألمانية بصفة خاصة.. تطل علينا مشكلة "جميلة الجميلات" الملكة نفرتيتي برأس تمثالها الجميل والموجود حاليا بمتحف برلين.. برفض وزير الثقافة الألمانية "بيرند نويمان" وكذا مدير متحف برلين "ديتريتش فليودنج" منحها تأشيرة خروج من ألمانيا لزيارة وطنها "مصر" وقريتها "تل العمارنة" في محافظة المنيا.. والإقامة ولو لحين!! مع أقرانها في المتحف المصري الكبير.. عند افتتاحه عام 2011!! وفقا لتصريحات وزير الثقافة الفنان فاروق حسني.. والدكتور زاهي حواس أمين عام المجلس الأعلي للآثار. ولعل الغالبية.. يعتقدون أن انتقاد وزير الثقافة المصرية للرفض الألماني لإعارة رأس "جميلة الجميلات" وما يتضمنه هذا الانتقاد من "رنة حزن وأسي" لما أسماه ب "الموقف الألماني المتعنت" إذ كان يأمل أن يكون تمثال الملكة "نفرتيتي" ضمن التراث المصري الأصيل.. الذي سيزدان به افتتاح المتحف الكبير بطريق الإسكندرية الصحراوي.. واستشعاره في نفس الوقت أن تصريحات نظيره الألماني.. وكذا مدير متحف برلين لتبرير رفضهما وكمحاولة لتأكيد موقفهما بأنهما يخشيان ويخافان علي التمثال من التلف والدمار إذا ما تم نقله خارج متحف برلين وتسفيره إلي مصر.. لا تمثل إلا أعذارا غير عملية.. خاصة أن كثيرا من القطع الأثرية المصرية النادرة تجوب أنحاء العالم لفترات.. ليشاهدها ويتمتع بها شعوب العالم الخارجي مع إحاطتها برعاية علمية وتقنية عالية تضمن عدم المساس بسلامتها وعودتها كما كانت لمقرها الأصلي في مصر. وقد يخطئ من يعتقد أن هذا الخلاف والموقف فجر فجأة الآن.. وأن المشكلة وليدة اليوم فقط.. كما يخطئ أيضا من يظن أن العلاقات المصرية الألمانية علي المستوي الثقافي والتاريخي لم تتعاظم مثل النوعيات الأخري من العلاقات السياسية والاقتصادية والدولية.. إلخ. فالحقيقة أن هذا المطلب المصري سبق إثارته من العام الماضي.. إذ طالبت مصر بنفس المطلب.. وتعرضت وقتها لهجوم عنيف من الصحافة الألمانية ورفض بات وحاد للمطلب المصري.. اقترن بادعاء بأن ألمانيا من حقها الاحتفاظ بتمثال الملكة نفرتيتي لوصوله لألمانيا بطريقة "مشروعة" وفقا للمعايير الشرعية حينذاك (أي من أوائل القرن العشرين) وأن الجانب المصري يعلم ذلك ولهذا ومنذ ذلك الحين لم تتقدم مصر بأي طلب رسمي لاسترداده. ومن هنا.. تساءل وزير الثقافة المصري في تصريحاته "هل يتناسب هذا الرد مع طبيعة العلاقات القوية مع ألمانيا علي جميع المستويات؟!.. أليس من حق الشعب المصري أن يشاهد كنوزه وآثاره الفريدة أسوة بشعوب الدول التي تكتنز حاليا آثار مصر من نوعيات مختلفة!! ويضيف أن مثل هذا الموقف الذي يتنافي مع العُرف الدولي والأثري بتبادل القطع الأثرية بين المتاحف العالمية.. فإن مصر ستتقدم بطلبات رسمية لجميع الدول والمتاحف التي لديها آثار مصرية متفردة لإعارة تلك القطع لمصر لعرضها بالمعرض الكبير لمدة ثلاثة أشهر عند افتتاحه في منتصف عام 2011. وإلي جانب ذلك وكرد فعل جديد وغاضب من أمين عام المجلس الأعلي للآثار الدكتور زاهي حواس.. فقد صرح بأنه تقرر إرسال خطاب رسمي لمدير المتاحف الألمانية لاستعارة تمثال رأس الملكة نفرتيتي الموجود حاليا بمتحف برلين وأنه في حالة الرفض سيبدأ في اتخاذ إجراءات دولية بتجميع الدول ذات التراث الحضاري علي مستوي العالم وعددها 12 دولة لإعداد القائمة العالمية بالآثار الفريدة التي يجب إعادتها لأوطانها والتي خرجت بطرق غير شرعية.. وذلك خلال مراحل زمنية كان مباحا بها نهب وسرقة هذا التراث لتلك الدول!!.. ويضيف أن رأس الملكة نفرتيتي خرج بطرق غير شرعية أثناء حفائر عام 1914 التي قام بها في منطقة "تل العمارنة" بالمنيا الألماني "بوخارد" وتم شحنه "كثلاث قطع مغطاة بطبقة طينية.. وعندما طالبت الحكومة المصرية وقتها بإعادة التمثال إلي مصر.. وافق "هتلر" في البداية.. لكنه تراجع عن الموافقة بمجرد رؤيته لجميلة الجميلات "نفرتيتي"!! وإذ تشتد تصريحات وتحذيرات الدكتور حواس للجانب الألماني.. إذا ما استمر علي موقفه بممارسة الضغوط علي البعثات الأثرية في مصر التي تتخذ مثل هذه المواقف. بينما ينادي البعض الآخر من خبراء قطاع الآثار بمصر بضرورة تشكيل وفد رسمي مصري.. للتفاوض مع الجانب الألماني.. وإعطاء الضمانات الكافية له بإعادة التمثال بعد انتهاء فترة إعارته!! خاصة أن المخاوف الألمانية لا داعي لها فقد سبق أن أرسلت مصر قطعا أثرية مهمة لعرضها في ألمانيا.. حتي تقتنع ألمانيا بإرسال تمثال نفرتيتي إلي مصر. وإذا ما تناولنا الجانب الآخر وهو ما قد يعتقد أن العلاقات المصرية الألمانية الثقافية والتاريخية لم تنم وتتعاظم مثل النوعيات الأخري من العلاقات.. فأعتقد إلي حد كبير أن هذا الاعتقاد يجانبه الصواب.. وأن الحرص والتأكيد علي المعالجة السريعة والعادلة لهذا الخلاف وتفهم الجانب الألماني لطبيعة الموقف المصري وعدالة مطلبه في ظل التعاون المثمر من الجانبين لإزالة أي مخاوف أو محاذير فنية أو علمية ووضع ضوابط تتواءم مع طبيعة التبادل الثقافي والعلمي بين الدولتين. وإذا كانت المراحل والمتغيرات الزمنية تغيرت معها الأسانيد والقواعد الشرعية والقانونية خاصة فيما يتعلق بتهريب أو اقتناء الآثار من دولة إلي أخري إلا أن هناك حقيقة تؤكدها المبادئ والأخلاقيات المصرية الأصيلة بأن التراث والتاريخ وكنوزه ملك للبشرية جمعاء وأن الثقافة التي تحكم علاقات الدول العريقة لا يجب أن تتعثر في مواجهة خلاف أو اختلاف خاصة إذا ما كانت أحد أطرافها مصر مهد الحضارة والتاريخ!! ولعل من بعض النماذج والأمثلة التي تؤكد تلك الرؤي في العلاقات المصرية الألمانية علي المستوي الثقافي والتاريخي حاليا وبالأمس القريب.. الآتي: 1 في نفس اليوم الذي أعلنت فيه الصحافة المصرية مؤخرا 15/4/2007 أن ألمانيا رفضت مطلب مصر العادل والأصيل باستعارة تمثال رأس نفرتيتي لمدة محدودة.. لعرضه في المتحف الكبير.. نشرت جريدة "الأهرام" وتحت عنوان "كليوباترا وحتشبسوت وسفير يمتطي فيلا في معرض الآثار ببون". ويتضمن الخبر والوارد من بون: إن معرضا حاليا بها تحت مسمي "مصر التي عاشت بها كليوباترا" يقيمه معهد الآثار المصرية الملحق بجامعة بون.. وهو أحد أعرق معاهد الآثار المصرية في ألمانيا.. وذلك علي هامش معرض الآثار المصرية الغارقة المقام حاليا بمتحف "كانست أوستلنج" بالمدينة ويستمر حتي 3 فبراير من العام المقبل ويضم 200 قطعة من جميع مراحل الحضارة المصرية القديمة خاصة اليونانية والرومانية. 2 تفعيل اتفاقية التآخي والتوءمة بين محافظة المنيا ومدينة "هيلدزهايم" الألمانية والتي سبق توقيعها بين الطرفين عام 1979 وقد كان لي شخصيا شرف التنسيق مع وزارة الثقافة والمجلس الأعلي للآثار من جانب والجانب الألماني الذي رأسه عالم المصريات الشهير الألماني "أرني ايجيبريشت" وذلك إبان عملي محافظا للمنيا عام 1997 لإقامة متحف "آتون".. وتخصيص 25 فدانا لبنيانه وحرمه وحديقة متحفية للعصور التاريخية الستة التي تتميز بآثارها محافظة المنيا دون أية محافظة أخري. وقد أسفر هذا التعاون في تبادل الزيارات بين الجانب الألماني.. والجانب المصري عن إحياء الاتفاقية وتفعيلها علي أن تقوم إدارة الإنشاء والعمارة بمحافظة هيلدزهايم الألمانية بوضع الخرائط والتصميمات المعمارية والإنشائية للمتحف وحرمه وحدائقه علي ضفة نهر النيل في البر الشرقي للمنيا، حيث رأست وفدا مصريا في 28 أغسطس عام 1999 ضم كلا من السادة: أ أ. دكتور أحمد نوار رئيس قطاع المتاحف بوزارة الثقافة حينذاك. ب أ. دكتور المرحوم المهندس جمال بكري الاستشاري الهندسي للمشروع. ج الدكتور عيد عبداللطيف منسق التعاون بين الجانبين والأستاذ بكلية الفنون بجامعة المنيا حاليا. د أ. حسن أحمد حسن نائب رئيس التليفزيون المصري. حيث أقام عمدة المدينة الألمانية احتفالية كبيرة أسماها "الاحتفالية التاريخية لنهاية القرن العشرين"، حيث استلمت سبعة عشر ملفا تحوي آلاف الخرائط الدقيقة.. لإقامة المتحف وأنظمة المعرض والأمان والإضاءة به.. وقمت بتسليمها بدوري للأستاذ الدكتور أحمد نوار.. كما تم الاتفاق في هذا الحفل علي التبادل العلمي والثقافي.. بين جامعة المنيا المصرية وجامعة هيلدزهايم الألمانية!! (مرفق ما نشرته الصحافة الألمانية بالمدينة عن هذه الاحتفالية وصور الجانبين واستلام الخرائط.. إلخ). 3 ولعل من قبيل الصدفة.. أن يأتي إلي مصر ويتواجد بها الأسبوع الماضي وخلال ما تتداوله الصحف المصرية والألمانية عن أزمة "جميلة الجميلات" رأس نفرتيتي.. عمدة مدينة هيلدزهايم دكتور كورت ماخينز علي رأس وفد ألماني لتنفيذ وصية الراحل الأثري (أرني ايجيبرشت لتأسيس جمعية أهلية مصرية ألمانية لمحبي المتحف الآتوني بالمنيا وتوفير الدعم الثقافي والمادي لهذا المشروع والسعي لدي وزارة التعاون الدولي الألمانية لإدراج مشروع المتحف ضمن خطط الوزارة التمويلية والمشروعات التنموية.. خاصة أن وزارة الثقافة المصرية تبذل كل جهودها لإنهاء إنشاء مبني المتحف الرئيسي بعد أن أدرجته في خطتها وموازنتها بعد استلام خرائطه. وأخيرا.. إذا كان الخلاف الثقافي والأثري بين مصر وألمانيا علي تمثال "جميلة الجميلات".. فلا ننسي جميعا أنها كانت زوجة لإله "التوحيد" إخناتون.. فلعلّ وعسي!!