لا يوجد صراع في العالم يحظي باهتمام دولي من قبل الحكومات والمجتمع المدني العالمي ومراكز البحوث قدر الصراع العربي الإسرائيلي. فعلي قدر بشاعة الصراعات في أفريقيا، وعلي قدر حرج الصراع في جنوب آسيا بين دولتين نوويتين الهند وباكستان- وشرقها حول القدرة النووية لكوريا الشمالية، فإن أيا من هذه الصراعات لا يلق الاهتمام الذي يلقاه الصراع بين العرب والإسرائيليين، بل إنه عند هذا الصراع تتقاطع صراعات أخري بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة، وبين المسلمين والغربيين بعد انتهائها. وقبل أسبوع انعقد في العاصمة الأسبانية مدريد مؤتمرا للاحتفال بمرور خمسة عشر عاما علي مؤتمر مدريد الذي بدأ عملية السلام الشاملة في الشرق الأوسط، وكان بعضا من نتائجه معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية وعملية أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولكن المؤتمر لم يكن فقط للذكري حتي ولو كانت المنطلق، كما أنه لم يكن للتقييم حتي ولو كان واردا وضروريا، وإنما كان المؤتمر بغرض إشعال شرارة استئناف المفاوضات العربية- الإسرائيلية من خلال نافذة غير رسمية حتي ولو حضرها الكثير من الرسميين. ومن حيث الشكل كان هذا المؤتمر هو أكثر المؤتمرات تمثيلا بالدول العربية فقد حضرته وفود من فلسطين والأردن والسعودية ومصر وسوريا ولبنان بالإضافة إلي الأمين العام لجامعة الدول العربية ومعه الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي. وشارك هؤلاء جميعا وفودا مثلت إسرائيل والدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والولايات المتحدةالأمريكية بالإضافة إلي جمع يمثل مراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني. وبشكل ما كان المؤتمر نوعا من " المحاكاة" لأي مؤتمر دولي يمكن عقده بصدد القضية العربية- الإسرائيلية، بل أن المؤتمر كان فرصة للسيد عمرو موسي الأمين العام للجامعة العربية للدعوة إلي عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأممالمتحدة، كما كان فرصة للسيد خافيير سولانا وزير خارجية الاتحاد الأوروبي لكي يعلن قرب الإعلان عن مبادرة أوروبية جديدة تتضمن بعدا دوليا تستغل وجود نافذة زمنية متاحة لحل الصراع العربي الإسرائيلي قبل أفول زمن إدارة بوش الأمريكية. كما طرح تيدي لارسن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة اقتراحا تتم بمقتضاه التسوية علي مرحلتين يتم في مرحلتها الأولي إشهار قيام الدولة الفلسطينية علي أساس من حدود مؤقتة ثم بعد ذلك يجري التفاوض في المرحلة النهائية علي الحدود النهائية للدولة. أما الوفد السوري فقد اكتفي بإعلان استعداد سوريا لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل إنطلاقا من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات خلال التسعينيات. ولكن المؤتمر لم يكن فقط حول طرح اقتراحات كثيرة حول طريق التوصل إلي حل، ولكن ما بدا من توافق بين الطرفين العربي والإسرائيلي علي اعتبار المبادرة العربية قاعدة للتفاوض بين الطرفين. وأعلن جماعة من الإسرائيليين عن استعدادهم لتكوين وفد شعبي إسرائيلي يأتي إلي جامعة الدول العربية معلنا قبوله بالمبادرة. ومع ذلك فقد شهد المؤتمر مع هذا التوافق كثيرا من نقاط الاختلاف الحادة، فلم يكن غائبا عن الجمع أن الطرف الفلسطيني ليس فقط جماعة فتح والرئاسة الفلسطينية التي شاركت وإنما يوجد طرف أساسي يمثل منظمة حماس التي تمتلك كثيرا من أوراق اللعبة الفلسطينية ولها مواقف مختلفة عن التوافق العربي العام فيما يتعلق باعتبار الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 هي الأساس في التسوية العربية الإسرائيلية. وعلي أية حال فقد قدمت التصريحات الأخيرة للسيد خالد مشعل حول قبول التسوية علي أساس من قبول إسرائيل لفكرة الانسحاب من هذه الأراضي نوعا من الإحساس بالتفاؤل حول مستقبل المفاوضات. ولكن علي الجانب الآخر فقد كانت الإشارات الإسرائيلية -السورية حادة للغاية، فرغم الدعوة المباشرة لإسرائيل من جانب سوريا بالاستعداد لاستئناف المفاوضات فورا، فإن الوفد السوري حرص علي عدم الحديث المباشر مع الإسرائيليين وظل كل من السيد رياض داوودي-المستشار القانوني للرئاسة ووزارة الخارجية السورية- والسيدة بشري كانفاني المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية السورية- رافضين للحديث المباشر مع الجانب الإسرائيلي وبقي كلاهما موجها لأعضاء المؤتمر ككل. وكان ذلك مدهشا لأن سوريا شاركت في المؤتمر بالفعل، وقام السيد داوودي بعرض تفصيلي لما وصلت إليه المفاوضات السورية الإسرائيلية خلال التسعينيات حول ضمانات الأمن الإسرائيلية وإجراءات السلام التطبيع في الحقيقة- بين الطرفين، ومدي الخلافات الموجودة حول خط الانسحاب الإسرائيلي. وكان الرد الإسرائيلي هو توسيع دائرة التفاوض لكي تشمل ليس فقط الموضوعات المتنازع عليها، وإنما الدور السوري في لبنان وفي القضية الفلسطينية، وحدث ذلك بتعبيرات لم تخل من الحدة. وكان هذا الفصل من المؤتمر موضحا لتقاليد ذائعة في المفاوضات العربية الإسرائيلية عندما لا يكون أيا من الطرفين مستعدا بالفعل للتوصل إلي تسوية، أو حتي تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي يطالب كل طرف بتحقيقها. فلو كان الأمن هو الهدف الإسرائيلي هو تحقيق الأمن- وهو ما تسلم به سوريا- فإن توسيع دائرة التفاوض لكي تشمل موضوعات ناجمة أساس عن غياب السلام واستمرار حالة الصراع بين الطرفين هو الذي يحرم إسرائيل من الأمن الذي تدعي البحث عنه.وبالمثل فإن الهدف السوري الخاص بتحرير الأراضي العربية المحتلة لا يمكنه أن يتم دون قدرة سورية علي الحديث مع الطرف الإسرائيلي الذي سوف يقوم بالانسحاب. علي أي الأحوال فإن مؤتمر مدريد لم يكن إلا بداية، وخلال الأسابيع القليلة المقبلة سوف يتضح إلي أي حد كانت هذه البداية تعبيرا عن سراب خادع ويبقي الصراع علي حاله، أو أن المسألة سوف يكون فيها جديد هذه المرة. [email protected]