يتحدث كثير من أصدقائي في جماعة الإخوان المسلمين عن أنهم يريدون دولة مدنية وليست دينية؛ وهي نقط توافق لا بأس بها مع باقي الطوائف السياسية الأخري للبلاد بحيث تبدو القضية قاصرة علي الاتفاق علي تعريف المقصود بهذه الدولة. ولكن أصدقائي يقدمون تعريفا ضيقا للغاية عندما يتحدثون في الموضوع، فالدولة المدنية هي فقط الدولة التي لا يحكمها رجال الدين، أما أن يحكم الدين الدولة باسم تطبيق الشريعة فتلك نقرة أخري. وبالطبع فإن الدين لا يحكم بلدا وإنما الذي يحكم البلاد بشر، وعندما يحكم هؤلاء باسم الدين فإنهم يكونون رجال دين حتي ولو لم يلبسوا العمامة مرة واحدة في حياتهم. وهكذا فإن تعريف الدولة المدنية لدي الإخوان يصير هي الدولة التي لا يحكمها رجال الدين من خريجي المدارس الدينية أو المشايخ أو لابسي القفطان والعمامة. وبنفس الطريقة من الالتفاف تجد أن أصدقائي من الإخوان المسلمين يقولون بقبول قاعدة المواطنة كأساس للدولة المدنية، وهي لا تعني لديهم ما تعنيه المسألة في الدول "المدنية" الأخري، وإنما تعني أن العلاقة مع الغير الأقباط والملل الأخري تقوم علي قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، وهو ما يعني أننا المسلمون السنة وحدهم سوف يقررون أولا ثم بعد ذلك يعممون ما يرونه علي أساس من قاعدة المساواة التي تقول ان المساواة حتي في الظلم عدل وهي القاعدة الشائعة في الدول الظالمة حتي قيل ان صدام حسين كان رجلا عادلا لأنه لم يفرق في ظلمه بين شيعي وسني ومسيحي. وبالطبع سوف يهمس لك الأصدقاء بأن قاعدة المساواة سوف تعطي الأقباط والمرأة مساواة كاملة في تولي كافة المناصب العامة ما عدا أمرا واحدا هو "الولاية العظمي". فإذا فغرت فاهك سائلا وهل يوجد في الدولة المدنية "ولاية عظمي" أم رئيس للجمهورية سوف تجد أننا أمام منصب أسمي يقوم بقيادة السلطة الدينية والمدنية في البلاد، وهو أمير المؤمنين وخليفة رسول الله علي الأمة. وذات مرة كتبت مقالا عن ظاهرة "النقاب" وقلت فيه انه يتعارض صراحة مع الدولة "المدنية" التي تقوم علي أفكار أساسية تقتضي أن تكون المرأة كاشفة لوجهها، فهي تسجل في الوثائق الرسمية بصورتها وليس بنقابها، سواء كانت هذه الوثائق متعلقة بالشهادات المدرسية، أو بالحصول علي بطاقة الهوية وجواز السفر ورخصة القيادة. ولكن أحدا من أصدقائي لم يعلق علي الموضوع إلا بالهمس قائلا ان الإخوان لا يشجعون النقاب، ومعظم زوجاتهم وبناتهم من المحجبات وقلة فقط هي التي تتبني النقاب. وكان أفضل ما سمعته كان أن الإخوان مثلهم مثل غيرهم يحتاجون إلي الاجتهاد، ولكن الاجتهاد لم يأت أبدا لأن الإخوان مثلهم أيضا مثل غيرهم يخافون من الاجتهاد خوفا من الانقسام، ويبقي النقاب تحديا لما هو معلوم بالضرورة العملية في الدولة المدنية. ولن تعرف أبدا ماذا سوف يفعل الإخوان بمصلحة الأحوال المدنية التي ستصدر بطاقات الهوية إذا ما تولوا السلطة يوما وهل سيصدرون بطاقات للنساء المنقبات أم أنهم سيكتفون ببطاقات خاصة لعائل المرأة أو راعيها، وساعتها لا تسأل عن قاعدة المساواة حتي ولو علي طريقة لهم ما لنا وعليهم ما علينا لأنها قاصرة علي الرجال فقط. ولكن كل هذه الأسئلة تصبح أكثر تعقيدا كلما توغلنا في شئون الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ومثالها ما جري مؤخرا بالنسبة لبنك فيصل الإسلامي الذي دخل إلي البورصة مؤخرا مبشرا باندماج الاقتصاد "الإسلامي" مع الاقتصاد الوطني. فقد وجد البنك أن نص المادة 11 من لائحته التي يقوم عليها منذ عام 1975 يقول انه لا بد أن يكون المتعامل مع أسهم البنك "مسلما ملتزما بالشريعة الإسلامية"، وعندما تقدم مسيحي لشراء الأسهم وقف البنك بالمرصاد وأصبحت القضية كلها موضعا للتحقيق والقضاء. هنا في الدولة المدنية فإن كافة المواطنين سواء أمام القانون والبنوك، وحتي وفقا للتعريف الذي لا يوجد مثله في العالم والقائل بأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا فإن من حق المسيحي وغير المسيحي أن يتعامل مع أسهم البنك، ولكن البنك كان له رأي آخر بينما التزم الإخوان الصمت إزاء الحالة. والأخطر في الموضوع أن المادة المذكورة تقول أنه لا يكتفي بأن يكون عميل البنك "مسلما" أي ناطقا بالشهادتين بل أن يكون أيضا ملتزما بالشريعة الإسلامية، وهي مسألة لا أدري كيف كان البنك يقوم بها، لأن فكرة الالتزام هذه لا يمكن إثباتها والتأكد منها إلا بالتفتيش في الضمائر والجيوب والسلوك. وإذا كان ذلك هو الحال في "بنك إسلامي" فكيف يكون في دولة "مدنية" و"إسلامية" أيضا. ولكن الأخطر من الخطورة السابقة فقد كان أن مثل هذه القاعدة كانت موجودة في الدولة "المدنية" الحالية أو التي يفترض أنها كذلك وسكتت عليها كل هذه المدة أو تغاضت عنها، أو أنها ببساطة لا تعلم، وفي هذه الحالة سوف تكون المصيبة أعظم. وسيبقي السؤال الأساسي هو كم من المؤسسات في مصر فيها مادة مثل المادة 11 التي تستبعد صراحة بعض مواطني الدولة من المعاملات، وفوق ذلك تقع في معضلة إما أنها تأخذ مكان "الملتزم" الذي يبحث في الالتزام بالشريعة أو أنها لا تقول الحقيقة لأنها لم تفعل ما تقول به؟!. لماذا نثير هذه القضية الآن بينما ينبغي أن تكون الأولوية للنظر في موضوع التعديلات الدستورية، والبحث في مصداقية الحزب الوطني الديمقراطي وقدرته علي تحقيق الإصلاح السياسي في البلاد؟ والرد هو أنني كتبت وسوف أكتب في الموضوع مقالات وكتب، ولكن الإصلاح السياسي يتعدي بكثير ما يفعله أو لا يفعله الحزب الوطني فهو ممتد لكل الطبقة السياسية في البلاد سواء كان في المعارضة أو في الحكم أو خارجهما في النقابات والمجتمع المدني. ووسط كل هؤلاء يوجد الإخوان المسلمين يحتلون مساحة كبيرة من المسرح وبقدر مساحتهم فإنهم يتحملون جزءا من المسئولية عن مستقبل البلاد. ونقطة التوافق معهم، أو مع الأصدقاء منهم فهي الرغبة في إقامة الدولة المدنية، وآن لكي نسمع ردودا مباشرة، واجتهادا سياسيا ودينيا، يتناسب مع هذه الدولة، وهذه المرجعية!!