عندما جاء النبي (ص) إلي المدينة وجد بها يهودا توطنوا، ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلي رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل _ عن طيب خاطر. وجودهم، وعرض علي الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، علي أن لهم دينهم وله دينه. هذه الوثيقة هي أول دستور في هذا الزمان ينص علي حرية العبادة والتعاون الخالص بين جميع مواطني المدينة من مسلمين ويهود ومشركين، لنشر السكينة في ربوع البلدة، والضرب علي أيدي العادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم. وقد نصت _ بوضوح _ علي أن حرية الدين مكفولة. فليس هناك أدني تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة علي نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، واستنزل تأييد الله علي أبرز ما فيها وأتقاه، كما استنزل غضبه علي من يخون ويغش. واتفق المسلمون واليهود علي الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو. وأقروا بحرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها، وحرية المكوث فيها لمن يحفظ حرمتها. لقد أعلت الوثيقة من شأن فكرة "المواطنة"، ذلك أن الخطر الخارجي الذي يهدد الوطن (المدينة) يتجاوز أتباع دين بعينه، ومن ثم فان المقاومة هنا يجب أن تكون "وطنية" وليست دينية، والدفاع حق وواجب علي جميع المواطنين مع اختلاف الانتماء الديني والتباين العقائدي. جدل حر ولم يكتف الرسول (ص) بهذا الدستور، وإنما قدم مثلا رائعا في سماحة النفس وأدب الحوار حتي وإن خالف اليهود فما أكثر الحوارات التي دارت بينه وبين من يعارضونه ويرفضون نبوته ورسالته، وما أكثر الأسئلة التي طرحوها عليه وأجاب عنها. ليبرهن وبشكل عملي علي أن الاختلاف في الرأي مسموح به، والحوار متاح بلا قيود، والإكراه ليس واردا. لقد جادلهم الرسول بالحسني، علي الرغم من علمه بأن أسئلتهم لا تهدف الوصول إلي الحق أوالحقيقة، وإنما هي وسيلة للاستفزاز والتشكيك وإثارة البلبلة في أوساط المسلمين. ولكن الرسول كان مصرا علي التمسك بالمنهج الذي يأمر به، القرآن الكريم (وجادلهم بالتي هي أحسن). سأله اليهود عن الساعة، وهو سؤال مغلوط مليء بالألغام، لأنهم يعرفون أن الأمر ليس من علم البشر، فهو مما اختص الله تعالي به نفسه. لم تكن تلك الأسئلة تستهدف العلم، بل كان جل هدفها هو الإحراج والكيد! ومع أن الرسول كان يعي كل أهدافهم الحقيقية، لكنه لا يصادر علي الحق الذي يسيئون استخدامه (حرية الرأي)، ويستمر في إعمال القانون الإلهي، الثابت المشترك في الآيات جميعا هو: يسألونك.......قل. لكل سؤال إجابة، وللسائل حرية أن يطرح ما يشاء دون تفتيش في النوايا. لا مصادرة علي حق اليهود أو غيرهم في طرح الأسئلة، أما النوايا الكامنة فلا يجب أن تمثل عائقا ولا يجب أن تقود إلي قمع أو قهر!. بنو قينقاع انقضت فترة طويلة واليهود يناوئون المسلمين، والنبي (ص) يطاولهم لعلهم يرجعون عن غيهم. فلما انتصر المسلمون في غزوة بدر، ذلك الانتصار العظيم، أكل الغيظ قلوب اليهود، وبلغ حسدهم للمسلمين ما بلغ، وكان النبي (ص) قد بعث رجلين ليبشرا أهل المدينة بذلك النصر، فكبر ذلك علي اليهود، وقال كعب بن الأشرف: "أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل الذين يسمي هذان الرجلان، والله لبطن الأرض خير من ظهرها"(4). وكان كعب يقول الشعر ويجيده، وقد ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، فلما تيقن الخبر ورأي الأسري خرج إلي قريش يبكي قتلاهم، ويحرض بأشعاره علي قتال النبي (ص)، ثم رجع إلي المدينة فأخذ يحرض الناس علي المسلمين. وكان يهود بني قينقاع ينزلون بين المسلمين بالمدينة، وكانوا أكثر اليهود مالا، وأشدهم شجاعة وبغيا، وكان بينهم وبين عبد الله بن أبي زعيم المنافقين في المدينة حلف قبل الإسلام، فزاد هذا في بغيهم، وظنوا أن عبد الله لا يفرط في حلفهم، فحاولوا الإغراء بامرأة من نساء المسلمين كاشفين عن عورتها في جمع في السوق. وكان هذا الفعل فيما قبل الإسلام (عند العرب) تدوم الحرب من أجله سنوات طويلة تفني فيها قبائل برمتها. فلما صاحت المرأة مستغيثة وثب رجل من المسلمين علي الفاعل فقتله، فشد قومه من اليهود علي المسلم فقتلوه. رأي النبي (ص) أن يضع حدا لهذه الأعمال التي بدأت بالخيانة وتأليب الناس علي المسلمين ثم انتهت بالإغراء بنسائهم ومحاولة تدنيس اعراضهم، علي مرأي ومسمع من الناس أجمعين، فبدأ بيهود بني قينقاع، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين بالمدينة، وكانوا أكثر بغيا وخيانة من غيرهم، لعل ما يحدث لهم يردع غيرهم، ويحملهم علي مراعاة عشرتهم للمسلمين، وتقدير العهد الذي ما زال ساريا بينهم.فأعلن الحرب عليهم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة في حصونهم، حتي نزلوا علي حكمه، ثم سألوه أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة، وأن لهم النساء والذرية، وله بقية الأموال من السلاح، فأخلي سبيلهم علي ذلك، وخرجوا من المدينة إلي أذرعات بالشام فنزلوا بها.لقد كان ما جري لبني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة، وقد كان فيه ما يكفي لحمل من بقي من اليهود بجوار المدينة علي التفكير فيما هم فيه من البغي علي المسلمين، وعدم الوفاء بعهودهم، ولكن قوتهم وأموالهم أعمتهم عن مثل هذا التفكير، فلم يفد ما جري لبني قينقاع شيئا فيهم، بل مضوا هم والمنافقون في تدبير المكايد للمسلمين، وفي الاتصال بقريش في السر للاتفاق معها علي القضاء عليهم.