بينما كنت اقلب في مكتبتي وجدت كتابا بعنوان: رسائل طه حسين يكتب مقدمته نجيب محفوظ.. اكتشفت بعد ان قرأت المقدمة ان زمن العمالقة قد ولي، واننا نعيش الآن عصر الاقزام الذين اقنعوا انفسهم ويحاولون اقناعنا بأنهم جهابذة ومردة، اقدامهم علي الارض ورؤوسهم في السحاب، بينما هم في الحقيقة "هاموش" وغثاء ليس لهم وزن ولا قيمة! تخيلوا نجيب محفوظ بعد ان كتب الثلاثية يخجل من مقابلة طه حسين ويري ان مثله حينما يقابل طه حسين ويهديه آخر مؤلفاته "السكرية" يعد نوعا من التطفل واضاعة الوقت لرجل مهم في قامة طه حسين، ولكن احد اصدقائه يصر علي المقابلة ويرتبها وكأنها صدفة في احدي المناسبات. ولما لم يجد نجيب محفوظ بدا من الانصياع لضغوط صديقه سلم امره لله وذهب وهو مرتبك يتصبب عرقا خوفا من هيبة لقاء الاستاذ! هل تدركون معني ما اقول.. نجيب محفوظ واقولها بالفم المليان "نجيب محفوووظ" في عز مجده ونضجه يعتبر نفسه عديم القيمة ويعمل الف حساب للقاء طه حسين ويخجل من نفسه لانه سيشغل بال هذا العملاق بقراءة احد اجتهاداته المتواضعة، في الوقت الذي نري فيه كتابا وصحفيين "لا يفكون الخط" وليس لهم اي لون ولا طعم ولا رائحة يملؤهم الغرور ويعتبرون ان مقلب النفايات في مقالاتهم او صفحات كتبهم بستانا لابد ان يقصده كل باحث عن العلم والمعرفة ومتشوق للتحليل الرحين الجاد لكل مستجدات الامور علي الساحة! علي العموم لن نضيع الوقت في وصفهم، فأنتم تعرفونهم واخذتم قرارا بعدم الاقتراب من كتبهم ومقالاتهم خوفا علي انفسكم من التخلف ومضيعة الوقت والجهد في غير المفيد او بناء علي تعليمات الطبيب بالامتناع عن كل ما يسبب لكم نوبات القرف والغثيان والقيء وعدم الرغبة في الحياة. واقرأوا معي مقدمة نجيب محفوظ لكتاب رسائل طه حسين وهو يعترف بفضله وعلمه: لا اتذكر بداية محددة لتعرفي علي طه حسين، ولكنني اذكر انني كنت اعرفه طوال عمري، ولا ادري متي وكيف واين سمعت عنه، ولكنني عرفت طه حسين الاديب وطه حسين الاستاذ وطه حسين العميد. ولا شك انني قرأت "الايام" لطه حسين بمتعة لا مزيد عليها، وانا لا ازال اتمرن علي الكتابة، ولعلني كنت في اوائل المرحلة الثانوية فحاولت تقليدها في كراسة او كشكول واسميتها "الاعوام" علي نفس الوزن محاولا ان اقلد نفس الاسلوب ونفس الطريقة، واحكي فيها عن نشأتي كما حكي طه حسين عن نشأته، وقد اعطانا طه حسين في رواياته المعروفة كل نماذج الرواية تقريبا، من رواية السيرة الذاتية في الايام الي الرواية الموضوعية في دعاء الكروان الي رواية الاجيال كما في شجرة البؤس التي هي اول رواية في اللغة العربية من روايات الاجيال التي لا يخلو منها ادب امة في اوروبا، وقد تأثرت تأثرا كبيرا بشجرة البؤس، وظل هذا التأثير ينمو حتي كتبت الثلاثية. وقد ارتبط طه حسين الاديب في اذهاننا بالحرية والبحث العقلي الموضوعي كمفكر كبير.. ويعتبر طه حسين احد الرواد مع العقاد والمازني وحسين هيكل وسلامة موسي الذين قامت عليهم حياتنا في مطلع القرن العشرين. ورغم انني احببت طه حسين الا ان طبيعتي كرجل منزو تجعلني احب من بعيد.. يعني مثلا انا احب العقاد حبا يفوق كل وصف، وكنت اذهب الي مكتبة الانجلو، وكنت اجده جالسا يقلب في الكتب، ولكنني لم اجرؤ ابدا علي الاقتراب منه والتسليم عليه.. ونفس الشيء مع طه حسين.. واذكر انه بعد الثورة وانشاء نادي القصة دعاه المرحوم يوسف السباعي بعد ان اختاره رئيس شرف للنادي، وقدمنا جميعا له، فسلمت عليه ولم يكن قد قرأ لي شيئا ابدا، ولكن المرحوم انور المعداوي الناقد المعروف قال له: انت كتبت عن يوسف السباعي وامين يوسف غراب وغيرهما ممن قرأت لهم فاقرأ لنجيب محفوظ أيضاً، فقبلها طه كنوع من الاحراج، فالرجل لديه قراءاته ومسئولياته ومن غير المعقول ان يقرأ كل رواية جديدة تأتي اليه، رغم انني كنت اهديه رواياتي كما اهديها لكبار اساتذتي. فلما تعرفت عليه بعد ان قدمني له المعداوي "ورجاه" ان يقرأ لي كان من "حسن حظي" انه بدأ يقرأ ما اكتبه، حيث قرأ "زقاق المدق" وكتب عنها مقالا رائعا، ثم كتب مقالا آخر لا ينسي عن بين القصرين وقال انها رواية تصل لمستوي الادب العالمي. لقد رفع طه حسين روحي المعنوية، لدرجة لم اكن اتصورها، خاصة ان ذلك قد جاء بعد حرمان طويل، حيث مرت سنوات طويلة حتي كتب عني طه حسين. ثم حدث بعد ذلك ما لم اكن احلم به.. حدث اتصال بيننا ودعاني لمقابلته في بيته، فكنت اتردد عليه احيانا اذهب اليه وحدي واحيانا اذهب بصحبة ثروت اباظة وفي هذه اللقاءات كان يتبسط معنا ولكن شخصيته كانت تفرض الاستاذية التي ربما لم يكن يحب ان يظهرها كي لا يضايق الناس بها. رغم كل هذا فإن نجيب محفوظ عاتب علي استاذه طه حسين في مقدمة الكتاب حيث يقول: "ولكن طه حسين الذي تظاهرنا من اجله في الثلاثينيات غضبنا منه في الستينيات حينما قام بأول هجوم علني علي العقاد بعد وفاته من خلال ندوة تليفزيونية قال فيها انه "لم يفهم عبقرية عمر" ولم نكن نعلم سوي ان العلاقة بين الاديبين الكبيرين هي علاقة مودة واعجاب متبادل، فالعقاد يقدم لنا دعاء الكروان شعرا وطه حسين ينقده نقدا جميلا في "الرسالة" ويهديه "دعاء الكروان نثرا" وهو يقول: الي صديقي الاستاذ الكبير عباس محمود العقاد.. سيدي الاستاذ.. انت اقمت للكروان ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن لي ان اتخذ له عشا متواضعا في النثر العربي الحديث، وان اهدي اليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص. ويكمل نجيب محفوظ عتابه بقوله: لقد اهتزت صورة طه حسين قليلا بعد هذا الهجوم، فنحن نحب طه ونحب العقاد وقد هزنا ما قاله طه في حقه. ويكمل عتابه بقوله: وفي الوقت الذي كان فيه العقاد كاتب الوفد الاول، وعلمت ان طه حسين كان عدوا لسعد زغلول حزنت وغضبت وقلت لنفسي: "يعني يا دكتور طه بشعبيتك وعلو فكرة الحرية عندك وانت رجل من صميم الشعب فأنت مرشح لكي تكون كاتبا لسعد زغلول، فكيف تكون كاتب الارستقراطية المصرية؟! ويبدو أن تلك هي السمة الغالبة في التعامل بين العمالقة في هذا الزمن الذي لم نكن قد كبرنا حتي نلوثه.. فعندما نقرأ احدي رسائل احسان عبد القدوس الي طه حسين نكتشف ايضا نفس تواضع نجيب محفوظ. احسان عبد القدوس في رسالته لطه حسين يلجأ الي استاذه طه حسين في ازمة، او لعلها احدي أزماته الكبري مع احدي قصصه والتي اثارت ضجة وصلت الي مجلس الامة وكاد احسان ان يحقق معه في نيابة الاداب بسببها فيقول: استاذي الكبير الدكتور طه حسين.. تحية حب كبير واقتناع بك ترددت كثيرا في الكتابة اليك والاتصال بك.. عدت الي نفسي فأحسست اني تافه.. تافه الي حد لا استحق ان اخذ من وقتك شيئا. ومشكلتي ان قصتي الاخيرة "انف وثلاث عيون" رفضت الدولة التصريح بنشرها في كتاب الا بعد ان احذف منها واعدل فيها.. كنت اود ان انشرها واهديها اليك لكن مشكلتي الحقيقية انني فقدت الثقة في نفسي الي حد انني لم اعد مقتنعا بأن لي انتاجا ادبيا يستحق ان يقرأه استاذي الكبير طه حسين، ووجدت نفسي صريع ازمة نفسية قاسية ابعدتني عن كل الناس وكل مراكز الحركة وكل من احبهم، وهذا ما اشاع اليأس في نفسي وما جعلني اشعر بالوحدة والبرودة والانطواء. ونكتفي بهذا القدر ونسكت عن الكلام المباح وغير المباح فقط اردنا ان نقول لكل الاصفار المحيطة بنا "شوفوا الكبار وتعلموا منهم" مع ذلك نشك ان يفعلوا، فالصفر سيبقي صفرا حتي ولو وضعته الصدفة علي يمين الارقام. [email protected]