والحقيقة أن تناول ذلكم الملف يحيط به قدر كبير من الاشكاليات، وكم من الحساسيات المفرطة، فاختلاف انتماءات المعتقلين لمدارس وفصائل متباينة داخل الحركة الاسلامية يجعل محاولة التواصل مع هذا الملف من الصعوبة بمكان. وأذكر أني فوجئت بعتب من بعض أصدقائي علي إثر تصريحات صحفية أطلقتها طالبا سرعة الافراج عن المعتقلين بعد إطلاق مبادرة وقف العنف .. خشي أصدقائي أن تؤثر تصريحاتي تلك علي تصفية مواقفهم أو يترتب عليها آثار عكسية . وإذا كان لدي الجماعة الاسلامية قيادة موحدة تستطيع تبني مواقف أبنائها، فإن اختلاف الصورة لدي فصائل الجهاد التي لا تتمتع بهذه الميزة قد يتسبب معها بعض الاشكالية أيضا في طرح معاناتهم داخل السجون. لكن الذي يضمن قدرا معقولا من الاعتدال في متابعة ملف المعتقلين بعيدا عن المزايدات أو المضايقات هو إلقاء الضوء علي الجانب الانساني ومدي تأثر المعتقلين وذويهم اجتماعيا واقتصاديا بظاهرة استمرار اعتقالهم لسنوات طويلة دون محاكمة أو حكم قضائي بالادانة، وتبقي الفكرة باعتبارها فكرة سامية تأبي علي الضمير الانساني قبول استمرار اعتقال أعداد كبيرة من المواطنين دون سند صحيح من القانون. عذري الذي أبديه لاصدقائي ان قيودا معينة توضع في طريق خطواتي، وإذا كان لأي محام أن يذهب لزيارة المعتقلين في اي وقت فإني لا أتمتع بهذه الميزة وتحتاج زياراتي لأذون خاصة ترتبط بالظروف والنواحي المزاجية أحيانا لمن يملكون سلطة انفاذ تلك الزيارات. وليسمح لي القارئ الكريم أن أميط اللثام حول نماذج عشوائية نطرحها علي بساط البحث ونحن نؤكد عدم صواب استمرار المعتقلين في سجونهم علي الأقل رغم استقرار الاوضاع في مصر، وموقف المعتقلين من مسائل كثيرة تغيرت حولها رؤيتهم الفكرية أو الشرعية، لا أستطيع أن أفهم أو يفهم غيري مبررات استمرار احتجاز أعداد كبيرة نسبيا رغم حصولهم علي أحكام قضائية بالافراج عنهم وبطلان قرار الاعتقال. أحمد زكي حافظ : ذلكم الشاب دمث الخلق الذي نشأ علي يدي ولازمني طويلا في مسجد محمد عبد السلام فرج ببولاق الدكرور بجوار منزلي، وعلمته ضبط الانفعال والتحلي بالصبر وعدم الخضوع لمؤثرات استفزازية، أحب دينه منذ صغره ومن كان مثله ربما التحف السماء ومباهج الحياة وأطايبها دون ضابط أو رابط، لكنه اختار التدين وحب الله مع الاعتدال، هذا الشاب اعتقل عام 95 ولم يخرج حتي الآن، تصوروا أنه لم يحاكم أو يتهم، بل لم تحقق معه أي جهة قضائية أبدا، الضابط الجهبذ الذي وقع قرار اعتقاله ولم يجد من يراقبه في زمن غابت فيه الرقابة وانعدمت المشروعية القانونية أو الدستورية، وجد أن اتهامه أو اعتقاله كما قلت أن ذلكم الشاب المتدين قد استمع مواطنا يسب الدين في وسط الطريق، تقدم منه وطلب منه التوقف عن سب الدين ونهره ومضي إلي بيته !! حظ أحمد زكي الأعثر أن هذا المواطن الذي سب الدين مرشدا سريا سارع لمن يوشي إليهم ووشي بأحمد أنه نهاه عن سب الدين !! وحينما ناقشت الضابط الهمام في سبب الاعتقال قال لا فض فوه ولا تهشمت أسنانه " دا حاول يعمل بطل وزعيم والشباب كانوا بيتفرجوا عليه " تصوروا هذا منطق يبرر اعتقال شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاما من عمره آنذاك قبل عشرة أعوام ؟ ثم هل يبرر هذا استمرار اعتقاله كل هذه السنوات؟. منذ عام استجمعت شجاعتي وزرت أحمد زكي في سجنه وأنا أتقلب خجلا وأسي، قال الضابط أثناء الزيارة " عقل احمد يا استاذ، واستطرد " خليه يعمل توبة " قال أحمد زكي بشموخ أعجبني لم أفعل ما يستوجب التوبة .. لم أقترف إثما أو جرما .. ومضي، كانت نظراته قاسية عاتبة زاجرة لم تزل تجلدني كلما تذكرتها. عبد المنعم جمال الدين : كان حدثا صغيرا لم يتجاوز الخامسة عشر عاما حينما عرفته أول مرة داخل السجن عقب اعتقال السادات!! كان ذكيا يميل إلي السياسة والاطلاع، توقعت له باعا في عالم الصحافة، وبالفعل خرجنا من السجن أواخر عام 84 وخرج ليكمل تعليمه، كان قد التحق بكلية الآداب وأثناء دراسته مارس الصحافة والكتابة، وكنت قد توسطت له لدي عادل حسين رحمه الله حينما كان يرأس تحرير جريدة الشعب، هكذا عمل وتخرج والتحق بطابور بلاط صاحبة الجلالة، ولم يمهله الوقت للقيد بجدول الصحفيين المشتغلين بالنقابة حتي دهمه الاعتقال عام 93 واتهم ضمن مئات بالانضمام لتنظيم طلائع الفتح وبرأته المحكمة ومن يومها وهو رهن الاعتقال، ولدت طفلته وهو داخل السجن وأصبحت آنسة كبيرة وعروس كبرت علي عين امها، بينما هو لم يخرج بعد من سجن ظالم قاس بلا حكم ولا إدانة . هل يتصور احد في القرن الحادي والعشرين أن يعاقب الناس علي أفكارهم بالشبهة لمدد تزيد علي العشر سنوات؟. أما المحامون المعتقلون فحدث عنهم ولا حرج، عدد من زملائي المحامين رهن الاعتقال لسبب بسيط ووحيد أنهم يدافعون عن أعضاء الجماعات الاسلامية في وقت لم تشأ السلطة لأحد أن يدافع عنهم !! تلقيت الاسبوع الماضي خطابين مختلفين من زميلين من المحامين المعتقلين، أولهما غاضب ساخط مني ومن لجنة الحريات التي أرأسها ومن نقابة المحامين التي ينتسب إليها يتساءل عن سبب خذلانه وعدم السعي لاطلاقه وهو الزميل مصطفي ثابت المحامي المعتقل بسجن الفيوم، وثانيهما عاتب به رقة من المحامي أحمد مسعد صبح المودع بسجن الوادي الجديد رغم انه من المنصورة!! قال صبح في رسالته العاتبة " أكتب لك هذه الرسالة والصدر ملتهب والقلب موتور والكبد ذات تباريج، فقد ضلت الحيل وانقطع الأمل وضاع الرجاء وهوي القلب كاظما . استمر مسعد صبح في صرخاته المكتومة قائلا " هل تعجز النقابة صرح الحريات عن المطالبة بإخلاء سبيل أعضائها من المحامين والذين قضوا ردحا من الزمن في ندرة الغوث وقلة المعين " ومضي متسائلا " أنا لست تابعا لأي جماعة من الجماعات ولا أحمل فكرا متطرفا، وأنا مواطن كسائر المواطنين منخرط في لحمة النسيج الاجتماعي وانتظر عقبي ذلك فرجا قريبا". إنني أهيب بكل مسئول تصله هذه السطور فتنزل من قلبه بردا وسلاما، ونداء واستغاثة بالافراج عن هؤلاء المعتقلين المكروبين، وللحديث بقية..