كلما وجدت الولاياتالمتحدة نفسها في ورطة، تُقدِم علي تغيير اسم المنطقة! لن أقف طويلاً أمام الدلالة المرعبة للتلاعب بالهوية القومية للمنطقة بواسطة التسميات المتقلبة تقلب الرؤي والخطط الجيو ستراتيجية للدول الأوروبية والأمريكية تجاه هذا الجزء من العالم، ولكن يقتضي الأمر التذكير ببعض تلك المحطات. فمع بداية الحرب الباردة، تحوّلنا من "شرق أدني" إلي "شرق أوسط" لكي يجري استيعاب تركيا وإيران وباكستان في الأحلاف المعادية للاتحاد السوفياتي، وكان أبرزها وأقصرها عمراً حلف بغداد. ثم تراجعت التسمية الجيو ستراتيجية مع صعود حركة التحرر العربية التي فرضت تسمية "العالم العربي" علي العالم أجمع اسماً للمشرق والمغرب العربيين معاً. علي أن نهاية الحرب الباردة أعادت فرض تسمية "الشرق الأوسط" وبُذلت جهود حثيثة، ولا تزال تبذل، لتعميد المنطقة "منطقة مينا" أي "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" بديلاً من "العالم العربي". فإذا سُئلتَ عن هويتك من الآن فصاعداً، فلا تنسَ أن تقول "إني ميناوي" بدلاً من عربي. ومع انتهاء الحرب الباردة ومطالع مشاريع الحلول السلمية للنزاع الإسرائيلي العربي، لاحت بشائر "الشرق الأوسط الجديد"، تتوسطه إسرائيل وعليه تهيمن، كما بشّر به شيمون بيريز في كتابه بالعنوان ذاته. ولكن ما إن وضعت حرب أفغانستان أوزارها في أعقاب 11 سبتمبر ,2001 وتمّ احتلال العراق، حتي أسقطت "الجِدّة" عن شرقنا الأوسط لصالح "المساحة" فإذا نحن قد فزنا ب"الشرق الأوسط الأوسع" أو "الأكبر" ليشمل الي بلدان الجامعة العربية وإسرائيل كلاً من باكستانوأفغانستان. مشكلة هذه التسميات المتسارعة والمتقلبة أنها ما إن نعتاد علي أن يتسمي بواحدة منها حتي يكون صاحب التسمية قد استبدلها بأخري، فيتبدي كل "شرق أوسط" علي أنه أكثر خواءً وتضليلاً من الذي "الشرق الأوسط" الموصوف والمنعوت الذي سبقه! فما هي إلا سنوات قليلة علي "الاتساع" حتي عدنا إلي "الجدّة" فتمخّض العدوان الإسرائيلي علي لبنان بقيادة الولاياتالمتحدة عن "شرق أوسط جديد" مرة جديدة، رمتنا به الآنسة كوندليزا رايس في الأيام الأخيرة. فما الجِدّة في هذا الجديد؟ هل من "جديد" في عملية السلام في فلسطين غير دفنها، مع إعادة احتلال معظم أجزاء الضفة الغربية ووأد أي أمل في دولة فلسطينية ورفض البحث في الانسحاب من الجولان؟ وما "الجديد" في العراق؟ غير السير المتسارع نحو الاحتراب الأهلي الذي يرمي يومياً من القتلي أكثر مما يرميه يوم من القتل الإسرائيلي للبنانيين؟ وحيث تغذي الولاياتالمتحدة الانشقاقات والنزاعات الاثنية والمذهبية سنداً لاستمرار احتلال لم تعد تعرف كيف تخرج منه أو كيف ولماذا تبقي عليه. وما "الجديد" في ميدان نشر الديموقراطية؟ "الجديد" هو أن الولاياتالمتحدة قضت حتي علي ادعائها نشر ديموقراطية لم تنشرها قط. إذ لم تكتف برفض الاعتراف بفوز حركة حماس في الانتخابات النيابية الفلسطينية، بل غطّت العمليات العسكرية الإسرائيلية الرامية إلي معاقبة الشعب الفلسطيني جماعياً علي اختياره الديموقراطي في انتخابات حرة ومتنازع عليها وبإشراف دولي! وهل من "جديد" آخر، في هذا المضمار، غير التغطية علي مهزلة الانتخابات الرئاسية المصرية، وما تلاها من مبايعة رئاسية في اليمن تستبق الانتخابات وتنوب عنها. وأما "الجديد" الدائم في نهج الولاياتالمتحدة فهو عقد الصفقات مع أنظمة دكتاتورية وسلالية نفطية استبدادية تخاف شعوبها وتستمد شرعيتها من الخارج وتستمرئ تقديم التنازلات لهذا الخارج في الميادين الوطنية والقومية والاقتصادية ودوماً علي حساب شعوبها. ولكن، بلي يوجد جديد. الجديد الفعلي في هذا "الشرق أوسط" هو تمكّن قوتين شعبيتين من التأشير إلي إمكانيات جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي. فعندما يعترف إيهود أولمرت، ولو بشيء من المبالغة، بأن مليون ونصف مليون إسرائيلي قابعون في الملاجئ الآن، وعندما يعترف ضباطه بأن مقاومي حزب الله يستخدمون الأساليب التي استخدمها الشيوعيون الفيتناميون في حربهم المنتصرة علي الولاياتالمتحدةالأمريكية، فهذا يعني أن "الجيش الذي لا يقهر" لم يعد يستطيع تسجيل الانتصارات في حروب خاطفة بل إنه لم يعد يدعي استطاعته حماية سكانه في الداخل. فكيف به وقد عجز عن احتلال غزة علي امتداد السنوات الأربعين الأخيرة. وكيف به وهو لا يزال مكتوياً بهزيمته في الجنوب اللبناني بعد 18 سنة من الاحتلال! والجديد أيضاً وأيضاً هو عجز آلة القتل الإسرائيلية عن تحقيق أي هدف من أهدافها العسكرية المعلنة في "معس" حزب الله، وتدمير قدراته الصاروخية واغتيال قادته، بعد أسبوعين علي بدء حربها علي لبنان. ومن لا يستطع أن ينجز مكاسب علي الأرض، فلن يستطيع انتزاعها بواسطة السياسة والدبلوماسية ولو تكأكأت عليه قوي الأرض قاطبة! والجديد هو عجز الإدارة الأمريكية عن الادعاء أنها إزاء الفشل المتمادي في "حربها علي الإرهاب" في ساحات أفغانستان، والعراق والحرب علي تنظيم "القاعدة" وسواها قد نجحت أخيراً، وبواسطة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر"، في تحقيق انتصار علي حركة تحرر وطني تشاء أن تنعتها بال"إرهاب" في لبنان! وهذا الجديد ليس عسكرياً فقط. إنه سياسي بعمق. لأنه يؤشر إلي أن السلام الوحيد الممكن هو ما يتم بين طرفين قويين. دون أن يكونا بالضرورة متساويين في القوة. هذا هو نموذج السلام الممكن علي الحدود الفلسطينية واللبنانية، الذي تسعي إسرائيل إلي تدميره بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. إن "الشرق الأوسط الجديد" الذي تنادي به الآنسة رايس يقوم تحديداً علي وأد هذا "الجديد" في الشرق الأوسط. أما عن "الديموقراطية الهشة" في لبنان، التي يحرص عليها السيد بوش كل الحرص وهو يطلق الطائرات الإسرائيلية للمزيد من تهشيشها، فلن تنقذها قبلة طبعتها ناظرة الخارجية الأمريكية علي خد الرئيس فؤاد السنيورة. هي أشبه بقبلة يوضاس تقول إن الشعب اللبناني سوف يبقي علي الصليب لأيام أو أسابيع قادمة علي الأقل. الله أكبر!