كنت دائما من المعجبين بالشيخ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، فهو بجانب شخصيته الآسرة السمحة فإنه كزعيم يجيد المزج بين السياسة والقوة، وهي ميزة يفتقر إليها كثير من الذين ينتسبون إلي المجالين؛ كما أنه هو وحزبه من بين الجماعات العسكرية/السياسية القليلة المحترفة لنظرية الحرب الشعبية، وهو تخصص معقد تتداخل فيه العسكرية مع السياسة مع علم الاجتماع فما بالك إذا أضيف إلي ذلك الدين. وبرغم العداء الذي تكنه الولاياتالمتحدة والغرب لحزب الله إلا أن الأدبيات الغربية في معظمها لا تصنف حزب الله كميليشيا عسكرية بل تراها أكثر في صورة تنظيم عسكري مقاتل له عنوانه المعروف داخل النسيج اللبناني السياسي وله دوره الاجتماعي والديني البارز. وقد عُرف عن حسن نصر الله بالتحديد قدرته علي تحديد الهدف المراد الوصول إليه بدقة وعدم الزيغ بعيدا عنه مهما لاحت أمامه من فرص هامشية براقة. استمعت إلي حديث الشيخ حسن نصر الله الأخير مع غسان بن جدو من قناة الجزيرة، وكان غسان منصفا معه ومع المشاهدين، فتطرق إلي معظم المواضيع الرئيسية المتصلة بموقف حسن نصر الله من الأحداث الجارية بوصفه نجمها ومحركها الأول، ولم يترك غسان في الحقيقة خاطرة تدور في رأس المشاهد إلا وطرحها عليه. وقد حاول الشيخ نصر الله طمأنة المشاهدين العرب والمسلمين بأن الأمور علي المستوي العسكري تسير مع حزب الله بصورة طيبة، كما حاول الرد علي بعض الادعاءات الإسرائيلية، وتبرير قراراته منذ بداية الأزمة، وتحديد موقفه من بعض الأمور المصيرية المتصلة بالمستقبل. وبرغم أن مجمل الحديث بدا متفائلا، لكن بقيت أمور عالقة ليست قليلة لا تبعث علي الاطمئنان، خاصة فيما يتصل بجوهر تحليله السياسي للأزمة وتطورها، وحقيقة رؤيته للعناصر الفاعلة فيها والمؤثرة حولها. عندما جاء الحديث عن سبب اشتعال الأزمة وقرار حزب الله خطف الجنديين الإسرائيليين بالطريقة التي جرت بها، لم يكن شرح حسن نصر الله مقنعا لي بالقدر الكافي، فقد حاول تضخيم الأهمية الملحة لقضية تحرير الأسري اللبنانيين في السجون الإسرائيلية وفي هذا التوقيت بالذات، وبهذا الثمن الباهظ، برغم انتقاده في نفس الوقت لمبالغة إسرائيل في رد فعلها العسكري غير المتوازن ضد لبنان "لمجرد أسر ثلاثة جنود" علي يد حزب الله. لم أشعر في حديثه أنه نجح في توقع رد الفعل الإسرائيلي بطريقة سليمة، إلا إذا كان هدفه من البداية استثارة الإسرائيليين ودفعهم إلي حرب مفتوحة هو علي أتم الاستعداد لها. لقد خطف حزب الله جنديين من إسرائيل وقتل ثمانية في عملية معقدة وجريئة، ثم يقول نصر الله في حديثه إنه كان يتوقع رد فعل "قوي لكن محدود"، فأرادها الإسرائيليون حربا مفتوحة. كان هذا خطأ حسن نصر الله الأول عندما فشل في التنبؤ برد فعل إسرائيل علي أسر الجنديين واحتمالات أن يكون الرد حربا شاملة، وهو نفس ما حدث مع جمال عبد الناصر عندما أغلق خليج العقبة في 1967 ظنا منه أن الأزمة ستكون محدودة، لكن الإسرائيليين حولوها إلي حرب شاملة. وفي الحالتين حالة عبد الناصر وحسن نصر الله لا يمكن أن نعتب علي إسرائيل أنها اختارت رد فعل لا يعجبنا. ما أسفت له أيضا لجوء رجل مثل حسن نصر الله إلي تلك الحجة التقليدية بأن رد فعل إسرائيل جاء بتشجيع من الولاياتالمتحدة ونتيجة لتحفظات بعض الدول العربية علي قرار حزب الله، كأنه كان معروفا عن إسرائيل ومع حزب الله بالذات أنها كانت تنتظر تشجيعا من أحد. وربما أزعجني أكثر رده علي السؤال الخاص بعزلة حزب الله عن العالم الخارجي والعالم العربي. لقد جاء رد حسن نصر الله خطابيا متجاهلا لحقائق الأمور ومهدرا بدون داع حقيقي لفرص مستقبلية قد يحتاجها في عسر الأيام القادمة. تساءل حسن نصر الله: "متي كان العالم معنا؟" وأشار إلي قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة المتعلقة بالقضايا العربية والتي لم تأخذ طريقها إلي التنفيذ، وإلي موقف الولاياتالمتحدة والغرب وانحيازهم الكامل إلي جانب إسرائيل. وبرغم أن منطق حسن نصر الله قد يكون مفهوما، إلا أن هذا الإنكار لأهمية المجتمع الدولي والقوي التي تحركه ليس مفيدا لرجل يقف وسط معركة يطمح إلي الفوز بها أو علي الأقل الخروج منها سالما. لقد وقع نصر الله في خطأ إنكار أهمية الآخرين، وفي منزلق التعميم حين صنف القوي الدولية والغرب بشكل عام كأنهم كتلة واحدة صماء لا فائدة من التوجه إليها بالشرح وطلب التأييد. ونفس الشئ ينطبق علي موقفه من الدول العربية، واستخدامه لنعوت مبالغ فيها عن "الأنظمة العربية" و"الحكام العرب" ومطالبته لهم بالصمت وعدم التدخل في شئونه، واتهامهم بالانتقال من موقف الحياد بينه وبين إسرائيل إلي موقف تحريض إسرائيل علي توسيع عملياتها العسكرية. ومرة أخري يغامر زعيم حزب الله بعزل نفسه عن الدول العربية ووضعها في خانة الأعداء الموالين إلي أمريكا وإسرائيل منكرا عليهم وعلي حكومته في لبنان حق معرفة ما هو مقدم عليه خاصة فيما يتعلق بشئون الحرب والسلام. وهو في ذلك لا يجد ضرورة في مشاورة حكومته، ويخلط بين حوارات عامة دارت عن ضرورات الأمن اللبناني داخل الحكومة، وبين النقاش في قرار حرب ومصير محدد سوف تدفع لبنان ثمنه لفترة طويلة. والذي لم أصدقه في حديثه ولم يدخل عقلي، قوله أنه لم يستشر سوريا وإيران قبل عملية أسر الجنود، وأن القرار كان قرارا خالصا لحزب الله. وفي الحقيقة كنت أتمني أن يكون قد حدث العكس برغم عدم حماسي لسياسات دمشق وطهران. فليس من البطولة في شئ، ولا من العزة ولا الكرامة، أن يكون المرء بلا حلفاء. لقد قال تشرشل يوما خلال الحرب العالمية الثانية أنه علي استعداد للتحالف مع الشيطان. فإذا كان الشيخ حسن نصر الله قد فقد ثقته في العالم كله وفي مساندة الدول العربية له، وفقد الثقة أيضا في زملائه داخل الحكومة اللبنانية وهذا لا يحسب له بل يحسب عليه في كل الأحوال فعلي الأقل يكون قد بني قراره علي دعم مضمون من ناحية سوريا وإيران إذا تطورت الأمور إلي الأسوأ. لقد أراد أن يدفع عن نفسه تهمة أنه يتبني أجندة إيرانية أو سورية لكنه بذلك يكون قد قامر بالمصلحة اللبنانية والعربية في الحقيقة _ في معركة غير متكافئة، وضد غريم كان أحرص منه علي صنع تحالفات قوية يحصل من خلالها علي دعم ظاهر علني وأسلحة ليزر، وفي نفس الوقت يظهر أمام الناس في صورة الضحية أمام صواريخ حزب الله. أتفق تماما مع سماحة الشيخ نصر الله بدعم أمريكا الكامل لإسرائيل فهذه حقيقة يعرفها الجميع ولا جديد فيها، وأن إسرائيل لو شعرت للحظة واحدة أن أمريكا ستقف ضدها، أو أن الغرب سوف ينتقدها بشدة، لما أقدمت علي ما تفعله الآن ضد لبنان. لكنك يا سيدي علي العكس من إسرائيل أخذت قرارك بأسر الجنديين بدون ضمان لدعم مؤكد من حلفاء حقيقيين طبقا لكلامك، وبدون أن تحرص علي كسب العالم الخارجي والعربي إلي جانبك، أو علي الأقل شركاؤك في الحكومة اللبنانية، وقمت بالعملية من أجل اعتبارات رأيتها مهمة وعاجلة، لكنها بالتأكيد أقل أهمية من قضايا أخري جوهرية تقع في صلب الصراع العربي مع إسرائيل. لقد ضاعت سيناء والضفة الغربية والقدس والجولان في ضربة واحدة نتيجة سوء تقدير وحسابات خاطئة في حرب يونية 1967، ولا نريد للبنان الحبيب أن ينزلق إلي نفس المصير، ونفقد من عمر الزمن ربع قرن كامل حتي ننجح في تحريره مرة أخري.