لا يمكن النظر إلي القصف الإسرائيلي للبنان الذي أعقب اختطاف "حزب الله" لجنديين إسرائيليين علي أنه مجرد اشتعال لهيب التوتر مرة أخري علي الحدود بين البلدين. فالأزمة تندرج في إطار ضرب النفوذ الأميركي والإسرائيلي في المنطقة وتحدي قوتهما عبر الدعم الإيراني والسوري وتوظيفهما لفاعلين إقليميين مثل "حزب الله" وحركة "حماس" الفلسطينية لتحقيق ذلك الغرض. ومع ذلك بإمكان أمريكا ومجلس الأمن إذا ما أحسنا التعامل مع الأزمة الحالية وأداراها بحكمة وذكاء أن تتحول إلي فرصة لتعزيز أهدافهما في الشرق الأوسط ومساعدة لبنان علي الخروج من الركود السياسي الذي يعيشه منذ فترة. ولا يعني ذلك أن دائرة الهجمات والهجمات المضادة بين إسرائيل و"حزب الله" هي مجرد "حرب بالوكالة" تتخذ من لبنان ساحة لها، فتاريخ الصراع بين الطرفين في الجنوب اللبناني طويل رغم تراجع حدته في السنوات الأخيرة عقب انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية في مايو 2000 واقتصاره علي الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا. لكن بإقدام "حزب الله" علي تصعيده الأخير في الأسبوع الماضي يكون قد تجاوز خطوط سياسية ثلاثة. الخط الأول: توسيع "حزب الله" لنطاق العمليات العسكرية لتمتد إلي خارج مزارع شبعا. فرغم أن هذه ليست المرة الأولي التي ينفذ فيها عناصر الحزب عمليات عسكرية تسفر عن مقتل جنود إسرائيليين، فإن هذه العمليات تختلف هذه المرة كونها تأتي في وقت تحاول الحكومة الإسرائيلية التعامل مع اختطاف جندي آخر في قطاع غزة. "حزب الله" اخترق خطا آخر عندما أبانت عمليته الأخيرة وجود تنسيق استراتيجي بينه وبين حركة "حماس"، وهو تنسيق تجاوز من خلاله هدف الدفاع عن لبنان ليخلف الانطباع لدي إسرائيل بأنها تخوض حرباً علي جبهتين. والخط الثالث يجري علي الساحة الداخلية، ذلك أنه بزج لبنان في مواجهة مع إسرائيل يكون الحزب قد قام بانقلاب ضد الأغلبية البرلمانية والحكومية المناوئة لسوريا والمتحفظة إزاء المغامرات العسكرية للحزب. فرغم مشاركة "حزب الله" في البرلمان، فإن علاقته بالأغلبية يطبعها الفتور بسبب معارضتها السياسة السورية التي تسعي إلي استعادة نفوذها مجدداً علي الساحة اللبنانية بعد انسحاب قواتها العسكرية السنة الماضية. ويبدو أن "حزب الله" من خلال عمليته الأخيرة إنما كان يهدف من بين أشياء أخري إحراج السياسيين المعارضين لسوريا بإرغامهم علي تأييد عملية اختطاف الجنديين وإظهار مدي عجز الحكومة اللبنانية علي بسط سلطتها علي الحزب. من جهتها تريد إسرائيل أن تحمل لبنان تكلفة عالية عقاباً لها علي موقفها الملتبس والمبهم إزاء "حزب الله"، حيث ضربت حصاراً جوياً وبحرياً علي لبنان، فضلاً عن قصفها المتواصل لعمق البلاد بما في ذلك مطار بيروت ومناطق أخري. والملفت أن إسرائيل فشلت في قراءة الصورة الإقليمية للأزمة بعدما أسقط المسؤولون الإسرائيليون سوريا من تنديدهم في تعارض صارخ مع تصريحات الإدارة الأمريكية التي أشارت إلي المسؤولية الإيرانية والسورية عن سلوك "حزب الله". فليس خافياً علي إسرائيل الدور الذي تلعبه إيران في تمويل "حزب الله" ما جعلها تبدي تخوفها من إرسال الجنديين المختطفين إلي إيران. هذا وسيبقي "حزب الله" قوياً رغم كل شيء إذ ما أن تنهي إسرائيل قصفها حتي يلتقط أنفاسه ويرص صفوفه وميليشياته التي تعتبر الأكثر فعالية في لبنان وأكثرها تنظيماً. من ناحيتهم سيواصل قادة "حماس" في دمشق العمل علي نسف أية محاولة للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين. لذا سيكون من الأفضل لإسرائيل وأمريكا أن تستغلا التصعيد الذي تسبب فيه "حزب الله"، لا سيما الاستياء الشعبي من وضع لبنان في مواجهة لا قدرة له علي الخروج منها منتصراً. فقد دُمر موسم الصيف السياحي الذي يعتبر أحد مصادر الدخل القليلة في لبنان، ولن يكون مؤيدو "حزب الله" من الشيعة في الجنوب أقل استياء إزاء تدمير قراهم وتحويلها إلي ساحات حقيقية للمعارك. وهنا يبرز دور الأممالمتحدة في حلحلة الأزمة، إذ رغم فشلها المتواصل في إحلال السلام بالشرق الأوسط، فإن الفرصة أمامها مواتية لتفعيل قرار مجلس الأمن 1559 الصادر في 2004 والذي ينص علي نزع سلاح "حزب الله". والفرصة نفسها أمام أعضاء مجلس الأمن الدائمين خلال اجتماعهم في قمة الدول الثماني الكبري لطرح مبادرة تستند إلي القرار الأممي 1559 علي أن تشمل بالإضافة إلي جمع تدريجي لسلاح "حزب الله" منح ضمانات مكتوبة تلزم إسرائيل باحترام سيادة لبنان، فضلاً عن سحب قواتها من مزارع شبعا المحتلة، والإفراج عن الأسري لدي كلا الطرفين. ولا شك أن مثل هذا الاتفاق سوف يلاقي دعماً من قبل السياسيين اللبنانيين المعارضين لسوريا، كما أنه سيسحب حجة الحفاظ علي السلاح من أيدي "حزب الله" وسيبعث برسالة إلي سوريا وإيران بأنهما ليسا الوحيدين الفاعلين في المنطقة.