تثير الأوضاع المتأزمة في الساحة الفلسطينية العديد من التساؤلات، فهل تقف هذه الساحة في مواجهة مخاطر الحرب الأهلية؟ وما هي الخيارات التي يمتلكها الرئيس محمود عباس والخيارات التي تمتلكها "حماس"؟ وهل ثمة مخرج مناسب من الاحتقان السائد، بين معسكري "حماس" و"فتح"؟ واضح أن كل واحد من هذه الأسئلة يفتح علي عديد من الإشكاليات والاحتمالات، بحكم تعقيدات الساحة الفلسطينية، ومداخلاتها الدولية والإقليمية، وخصوصا بسبب سيطرة إسرائيل علي مختلف جوانب الحياة لدي الفلسطينيين، وضمن ذلك قدرتها علي استمرار تأزيم هذه الساحة. هكذا، مثلا، فإن الاضطرابات التي شهدتها الساحة الفلسطينية، والتي تضمنت قيام الأطراف المعنية "حماس" و"فتح" بتصعيد الوضع، عبر تبادل حملات التحريض، وتجييش الشارع، والاحتكام للسلاح، أثارت مخاوف جدية من إمكان انفلات الأحوال، وسيادة نوع من الاحتراب الداخلي، لحسم واقع الازدواجية في السلطة، بين مؤسستي الرئاسة والحكومة. وأيضا لكسر التعادل في القوي بين الحركتين الرئيسيتين في هذه الساحة، لاسيما في ظل طغيان الأجهزة الأمنية وفلتان السلاح في الشارع. وما يعزز من هذه المخاوف واقع ضمور الفصائل الأخري، وغياب قدرتها علي ضبط التنازع بين "حماس" و"فتح"، اللتين أصبحتا تتقاسمان النفوذ في الساحة الفلسطينية، علي المستويين الرسمي والشعبي. لكن مع كل هذه الحقيقة فإن توصيف ما يجري بين الفلسطينيين بمصطلحات الحرب الأهلية هو بعيد عن الواقع تماما، لأن الحرب الأهلية تتأسّس علي الافتراق بين كتل اجتماعية تكونت تاريخيا، علي حامل طائفي (ديني) أو اقتصادي (طبقي) أو إثني (قومي)، وكل ذلك غير متوفر في الحالة الفلسطينية، التي تشهد مجرد خلاف سياسي/شعاراتي، يتمحور حول الصراع علي السلطة. الحاصل أن الساحة الفلسطينية محصّنة ضد الحرب الأهلية، ليس بسبب النوايا الطيبة لهذا الفصيل أو ذاك، علي أهمية ذلك، وإنما، أولاً، بسبب عدم وجود قوي اجتماعية مختلفة علي خلفية طبقية أو إثنية أو دينية؛ وثانياً، بسبب توحّد الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وسياساته العدوانية والعنصرية. المعني من ذلك أن الاحتراب الداخلي الفلسطيني، يفتقد للصبغة الأهلية (الشعبية)، وهو مجرد احتراب بين جماعات سياسية محترفة، تتنازع علي السلطة، أو علي ماهية المشروع السياسي المطروح. ومع ذلك فإن هذا النوع من الاحتراب مدمر لكل الأطراف، وللقضية الوطنية، وهو يؤدي إلي استنزاف طاقات الشعب وإنهاكه، وصرفه عن مواجهة التحديات الحقيقية التي تعترضه، فضلا عن أن هكذا احتراب يبين استهتار الأطراف القائمة به بتضحيات الشعب ومعاناته. بالنسبة لسؤال الخيارات المحتملة، لحل ازدواجية السلطة، بين مؤسستي الرئاسة والحكومة، وبين فتح وحماس، فإن الرئيس الفلسطيني يملك في هذه الحالة عدة خيارات. ففي حال فشل خيار الحوار فإن نتائج الاستفتاء هي التي ستملي حينها علي الرئيس خياراته. فإذا قبل الشعب "وثيقة الوفاق الوطني" (وثيقة الحركة الأسيرة)، وتقبّلت حماس هذه النتيجة، فإن الحكومة يمكن أن تستمر، وإن بقدر أقل من التجاذب السياسي مع مؤسسة الرئاسة. أما في حال رفضت حماس نتائج الاستفتاء، فإن الوضع ربما يزداد اضطرابا، وفي هكذا حال يمكن أن يبادر الرئيس إلي حلّ الحكومة. ولما كان الرئيس لا يستطيع تشكيل حكومة علي هواه، لأن المجلس التشريعي لن يوافق عليها، بحكم أغلبية "حماس" فيه، فإن الرئيس سيجد نفسه مضطرّاً وقتها ربما للجوء إلي خيار تشكيل حكومة طوارئ. وبديهي أن هذه الحكومة ستكون مجرد حكومة مؤقتة، لتسيير الأحوال، حيث سيجد الرئيس نفسه بعدها في مواجهة بديلين، إما إعادة الأمر للمجلس التشريعي، أي لحركة حماس، لتشكيل حكومة جديدة، بعد استتباب الوضع، أو التوجه نحو حلّ المجلس التشريعي، بتغطية من استفتاء جديد، أو بتغطية من منظمة التحرير (كمرجعية عليا للسلطة)، ولا شك أن هذا البديل أو ذاك هو رهن بالظروف، كما هو رهن بتطور العلاقات بين حركتي فتح وحماس. لكن الرئيس الفلسطيني سيجد نفسه في وضع جد معقد وإشكالي في حال لم يصوت الشعب لصالح الوثيقة المطروحة، وحينها لن يكون أمام الرئيس سوي التوجه نحو الاستقالة، والإعلان عن انتخابات رئاسية جديدة، أو القبول بالنتيجة ما يعني تجميد الوضع الفلسطيني برمته، وإخضاعه لمزيد من التجاذبات والاضطرابات. بالمقابل فإن حركة حماس تبدو في وضع جد صعب ومعقد وإشكالي، فهي تعمل من خارج المنظمة، كما أنها لا تملك أغلبية الثلثين في المجلس التشريعي، لسن قوانين أساسية، وأصلا فإن شرعية حكومة حماس ليست أكبر من شرعية الرئيس، بحسب القانون الأساسي، وفي ظل النظام الرئاسي الفلسطيني؛ وحتي علي المستوي الشعبي فإن نواب حماس في المجلس انتخبوا بأغلبية 440 ألف صوت، في حين أن الرئيس نال 500 ألف صوت في الانتخابات الرئاسية. علي ذلك فإذا حصل الاستفتاء، وتمخّض عن الموافقة الشعبية علي الوثيقة، فإن حماس ستقف أمام بديلين، القبول أو الرفض. ففي حال القبول، ولو الاضطراري، يمكن لحماس أن تختار أحد طريقين فإما التعايش مع مؤسسة الرئاسة، أو حلّ الحكومة، وتشكيل حكومة بديلة من شخصيات وطنية كفوءة ومستقلة، مدعومة منها وتخضع لرقابتها. وهذا الخيار يمكن أن يجنبها تبعات الحصار الدولي للوضع الفلسطيني، كما يجنبها الاستحقاقات أو المطالبات السياسية التي لا تبدو مهيأة لها. أما في حال رفضها النتيجة، واستمرارها في الحكومة فإن هذا يعني إصرار حماس علي إبقاء التجاذبات بينها وبين مؤسسة الرئاسة مفتوحة. وهنا ثمة خيار آخر لحماس يتمثل بالمزاوجة بين المعارضة ودورها في السلطة التشريعية، من خلال حل الحكومة، أيضا، وتشكيل حكومة مستقلين وكفاءات مدعومة منها. وبديهي أنه في حال عدم تصويت الشعب علي الوثيقة المطروحة، فإن حماس ستعتبر أنها حسمت الأمر وأن الشعب صوت لصالحها، ولصالح برنامجها السياسي، ولصالح وحدانية القرار في الساحة الفلسطينية متمثلا فيها؛ وحينها ستطالب باستحقاقات ذلك. علي ضوء ما تقدم فإن الساحة الفلسطينية معنية بإيجاد طريقة تخرجها من إطار التوترات والخلافات والاستنزافات الداخلية، لكن هذا الأمر يتطلب أساسا من جميع الأطراف إدراك مخاطر هذا الوضع، بالعمل علي الخروج من إطار عقلية المنافسات والمزايدات الفصائلية الضيقة والمضرة. وتغليب مصالح الشعب والوطن علي مصالح الفصيل، ومغادرة العصبيات الأنانية والوصائية، إلي روحية العمل المشترك، وتقبل الرأي الآخر، وتفهم معني العمل المشترك الذي يتضمن مقاربات وسط، وتنازلات متبادلة. أما في حال استمر الوضع علي حاله من التعقيد والاضطراب والتأزم، فلا مناص أمام الساحة الفلسطينية من تحكيم الشعب، بدلا من الاحتكام للسلاح، ولامناص من إيجاد طرق حضارية وراقية وديمقراطية لحسم الخلافات بدلا من حسمها في الشوارع، وبالطريقة العنيفة والغوغائية. هكذا فعلي الرغم من كل التعقيدات والخلافات والتداعيات، التي يمكن أن تنجم عن الاستفتاء، فإن الساحة الفلسطينية معنية بإيجاد مخارج خلاقة ووطنية وديمقراطية للحال التي وصلت إليها. وفي النهاية فإن التعددية والتنوع ليسا سمة سلبية، وإنما هما ظاهرة طبيعية وحيوية وضرورية. ثم إن الإجماع هو مسألة جد طوباوية في مختلف القضايا، فكيف بقضية علي غاية التعقيد والإشكالية والالتباس مثل القضية الفلسطينية. وفي النهاية أيضا فإن العملية الديمقراطية لا تقتصر علي الانتخابات فقط، وإنما هي تتضمن الاستفتاءات الشعبية. كما تتضمن تفهّم الرأي الآخر، وتقبل التعددية والتنوع، وخضوع الأكثرية للأقلية، واحترام رأي الأقلية، والقبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة. لا بديل آخر مناسباً للفلسطينيين. فإذا تعذر التوافق بالحوار، فإن البديل إما اللجوء للاستفتاء، مع احترام مختلف الأطراف لنتائجه، مهما كانت، أو اللجوء لانتخابات رئاسية وتشريعية في آن واحد معا، لحسم واقع التعادل وازدواجية السلطة، ولتعيين الخيار الذي تجمع عليه غالبية الشعب الفلسطيني، أما البدائل الأخري من نوع الحوار إلي الأبد أو النزول إلي الشوارع، فهي ستزيد الأزمة احتقاناً واشتعالاً