مازال التنافس بين الفلسطينيين من "حماس" وأولئك الذين يؤيدون رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يرسم خلفية المشهد الفلسطيني مهدداً بإلحاق أفدح الضرر بحركتهم الوطنية بسبب الخلاف المستحكم حول مسألة الاعتراف بإسرائيل. لكن عن أي اعتراف نتحدث؟ فوثيقة الأسري التي يروج لها محمود عباس تدعو إلي الاعتراف بإسرائيل إذا انسحبت إلي حدود 1967، وسلمت الضفة الغربية والقدس الشرقية إلي أهلها الفلسطينيين، وسمحت بعودة اللاجئين إلي ديارهم قبل 1948. والمشكلة أن مقتضيات الوثيقة لا تمت للواقع بصلة، ذلك أنها لا تعمل في الحقيقة سوي علي تعزيز برنامج حكومة إيهود أولمرت لرسم حدود أحادية للدولة العبرية ستكون أكبر من ذي قبل. وفي كل ذلك سيبقي الفلسطينيون محشورين وراء الجدار العازل دون دولة ولا مستقبل يخوضون مواجهات عبثية وانتحارية، لا نهاية لها. والحال أن الشرق الأوسط برمته تطغي عليه مجموعة من المطالب العشوائية والإنذارات السخيفة يحركها الوهم من جهة وخداع الذات من جهة أخري، كما هي ناتجة عن مصالح جشعة وتطلعات صفيقة يتخللها جهل واضح عند اتخاذ القرار. فما معني مثلاً أن تعلن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي موافقتهما علي التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي و"حقها" في الحصول علي التكنولوجيا النووية إذا ما تخلت أولاً بشكل دائم وقابل للتحقق عن مساعيها في مجال تخصيب اليورانيوم؟ وفي المقابل أبدت إيران استعدادها للتفاوض مع الأممالمتحدة ووكالة الطاقة الذرية للحد من طموحات برنامجها النووي شريطة ألا تفقد ما تعتبره حقها في استكمال دورتها النووية الكاملة، وهو نوع من التفاوض علي ما لا جدوي من التفاوض حوله. وتبقي المفاوضات الحقيقية مع إيران حول مدي استعداد أمريكا للسماح للنظام الإيراني بامتلاك القدرة النووية، وكيف يمكن للولايات المتحدة تفادي ذلك إذا ما أرادت. وتنهمك المؤسسة العسكرية الأمريكية هذه الأيام في إجراء حسابات دقيقة تقيس تداعيات أي تدخل عسكري والتكلفة السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تترتب عنه. بيد أن السؤال الجوهري الذي يظل دون إجابة بسبب تهرب المعنيين وخوفهم من مواجهة كوابيسه هو: ما الفرق الذي ستحدثه حيازة إيران للسلاح النووي علي الساحة الدولية؟ يبدو هنا أن الجميع يلتزم الصمت إزاء هذا التساؤل المقلق. وبالرجوع إلي الموضوع الفلسطيني يتبدي العبث في أوضح صوره. فبينما تعلن "حماس" رغبتها في التفاوض مع المسئولين الإسرائيليين حول تمديد الهدنة التي احترمتها طيلة الفترة السابقة، تصر من جهة أخري علي إنكار حق إسرائيل في الوجود، رغم وجودها الفعلي، وهو ما تعتبره إسرائيل أمراً غير مقبول. وفي المقابل وافقت السلطة الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس والقادة من قبله علي الاعتراف بإسرائيل حيث توجد حالياً ضمن حدود لم ترسم بعد علي أن تعترف إسرائيل من جانبها بقيام دولة فلسطينية لا وجود لها علي أرض الواقع وقد لا توجد أبداً. ويظل الموقف الأكثر غرابة هو إصرار إسرائيل في كل مرة وحين علي أن قيام دولة فلسطينية مرهون بنبذ القيادة الفلسطينية للمقاومة المسلحة لتحرير أرضها التي اغتصبتها إسرائيل، وإلا فإن إسرائيل لن تتفاوض مع الفلسطينيين حول إعادة أي جزء من الأراضي المحتلة إلي أهلها. ورغم هذا الموقف العبثي تحظي إسرائيل بدعم أمريكي ومساندة الاتحاد الأوروبي. وباختصار يبدو أن الكل مستعد للجلوس إلي طاولة المفاوضات من أجل الوصول إلي تسوية علي أن يتخلي الخصم عن أوراقه كافة كشرط للتفاوض والقبول بمطالب الطرف الذي وافق علي إجراء المفاوضات. ومع أن هذه السياسات التي تطغي علي الساحة الدولية تبدو خبيثة وميكافيلية، إلا أنها في الكثير من الأحيان تنجم عن السذاجة وعدم العمق في التفكير. فعلي سبيل المثال دعونا ننظر إلي اللقاء الذي أجراه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مع المجلة الألمانية الشهيرة "دير شبيجل" لنري المقاربة العجيبة الواردة فيه. فقد دار الحديث في البداية بين الرئيس الإيراني والمجلة الألمانية حول الاعتقاد الراسخ لديه بأن المحرقة اليهودية هي اختراع صهيوني لا أساس له من الصحة، وهو اعتقاد فوجئ كثيراً عندما اكتشف أن الغرب في عمومه لا يشاطره إياه. ولكي يوضح موقفه قال للصحفي الألماني: أعرف بأن "دير شبيجل" مجلة محترمة، لكنني لا أعرف علي وجه الدقة ما إذا كان مسموحاً لكم بنشر الحقيقة حول المحرقة. فهل يمكنكم نشر كل شيء حولها؟. حينها رد عليه الصحفي موضحاً: "بالطبع نحن في المجلة نستطيع نشر كل ما كشف عن المحرقة طيلة الستين سنة الماضية من البحث والتنقيب. وفي اعتقادنا أنه لا يوجد هناك أدني شك بأن ألمانيا تتحمل مع الأسف وزر مقتل ستة ملايين يهودي". محمود أحمدي نجاد الذي بدت عليه الدهشة أردف قائلا: "حسنا، لقد أثرنا نقاشاً عميقاً عبر وجهتي نظر مختلفتين. فإذا كنتم تعترفون بحصول المحرقة ضد اليهود يبرز السؤال التالي: من هو المسئول؟ والجواب كما هو معروف يمكن العثور عليه في أوروبا وليس في فلسطين، وبالتالي فإن الموطن الحقيقي لليهود هو في أوروبا وليس في غيرها".