ليس سرا علي أحد أنني من المعارضين للنظم السياسية المختلطة القائمة علي خلط نظام الجمهورية البرلمانية مع نظام الجمهورية الرئاسية؛ وهذه المعارضة ليست فقط بسبب ما أدت إليه التجربة المصرية من طغيان سلطة الرئاسة علي كافة السلطات الأخري، وإنما لأن التجربة العالمية ليست مبشرة في هذا الشأن. وعندما تكون تجربة العالم غير مغرية في أمر من الأمور فإن تطبيقاتها المصرية عادة ما تكون كارثية لأن البيروقراطية المصرية لها طريقتها الخاصة في خلط كل الأوراق بحيث تحصل علي نصيب الأسد من الأوراق الممتازة ساعة توزيع السلطات والثروة، ودائما تحت مسميات وشعارات نبيلة. ولكن ذلك ليس مشكلتنا فقط أن النظام السياسي المختلط يتميز عادة بانعدام الكفاءة والغموض والشلل في بعض الأحيان، أو أنه يسمح في كل الأحوال بظهور طائفة من ترزية القوانين " القادرة علي السماح بما لا يسمح، ومنع ما لا يمنع، والقيام في كل الأحوال بأنواع من البهلوانيات والأكروبات السياسية والقانونية لحل كل المشكلات والمعضلات. فمشكلتنا أيضا هو أنه في تطبيقاته المتعددة لدول كثيرة تجعله غير قادر علي ممارسة سياسة خارجية فاعلة، وهي السياسة المعبرة عن سيادة الدولة وأمنها القومي، وهي المسألة التي جعلت اعوجاج الأمر لصالح منصب رئيس الجمهورية مسألة سياسية في النظام المصري. ولعل الأمر يحتاج بعض التفصيل، فمناسبة الحديث جاءت مع انعقاد المنتدي الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ حيث كان مثيرا للتأمل أن لبنان كانت ممثلة بوفدين لا يوجد حديث ولا علاقة بينهما: وفد مصاحب للرئيس أميل لحود رئيس الجمهورية اللبنانية، ووفد مصاحب للسيد فؤاد السنيورة رئيس الوزراء، وكلا الوفدين لا علاقة له بالآخر في محفل دولي عالمي. وربما كان المثال اللبناني معبرا عن الحالة السياسية اللبنانية المنقسمة علي شرعية رئيس الجمهورية الحالي، ولكن المسألة ترجع أصولها إلي أن النظام اللبناني قائم في الحقيقة علي اقتسام الشرعية السيادية بين رئاسات الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب. وهذا الاقتسام هو أصل المشكلة في النظام المختلط، ومن المعروف أن فرنسا تصاب بالشلل في سياستها الخارجية حال انقسام السلطة العليا فيها بين الاشتراكيين والديجوليين. وربما كان المثال الأكثر وضوحا قادما من فلسطين هذه المرة، فقد كان مثيرا أن يوجد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ومعه وفده الرئاسي، مع الغياب الكامل لرئيس الوزراء إسماعيل هنية وجماعته صاحبة الأغلبية في مجلس النواب. وليس معلوما عما إذا كانت الدعوة وجهت لحماس أم لا، كما أنه ليس معلوما عما إذا كانت حماس ستقبل الدعوة إذا وجهت لها أم أن المرجح أنها كانت سترفض لأن ذلك سوف يضعها مع إسرائيل في تجمع واحد. ولكن ما يهمنا هو أن السيادة المنقسمة قد أدت إلي ممارستين للسياسة الخارجية واحدة تقوم علي المشاركة والاعتراف والاستعداد للتفاوض، وواحدة تقوم علي المقاطعة والرفض والمقاومة المسلحة. وفي مثل هذا النظام قام الرئيس محمود عباس أبو مازن بالدورين معا، حيث عمل علي تعظيم دور رئيس الوزراء في صنع السياسة الخارجية عندما كان ياسر عرفات هو رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، والآن فإنه يعمل علي التقليل منه بعد أن انعكست الأدوار وصار رئيس الوزراء من حزب وجماعة أخري. والنتيجة الطبيعية لمثل هذه الحالة هي الشلل في أهم الموضوعات الخاصة بفلسطين وقضيتها، كما هو حالة الشلل في الحالة اللبنانية حيث انتهي الحال بوجود رئيس للجمهورية لا يعمل، ورئيس وزراء لا يفعل، لأن الشرعية منقوصة من كلاهما. وتلك هي المسألة في النظام السياسي المصري لو تم الإخلاص للنموذج النظام السياسي المختلط، اللهم إلا إذا سارت الأمور كما كانت تسير عندما يحصل منصب رئيس الجمهورية علي المزايا الرئاسية في النظام البرلماني والمزايا البرلمانية في النظام الرئاسي، وهي حالة لا يمكن وصفها بالديموقراطية لأنها لا يوجد فيها توازن حقيقي بين السلطات، ولا أثقال مضادة بين السلطات المختلفة، ولا قدرة علي المحاسبة والمراقبة بين السلطات المختلفة. وحتي تكون الأمور واضحة فإن الهدف من المقال والموضوع ليس الانتقاص من سلطات رئيس الجمهورية في العملية الإصلاحية الدستورية المقبلة، وإنما إعطاء رئيس الجمهورية الفرصة في القيام بمسئولياته من خلال نظام واضح الصلاحيات ويعطي كل الأطراف السياسية ليس فقط القدرة علي المشاركة في القرار السياسي، وإنما وهو الأهم تحمل مسئولياته. وببساطة فإن المطلوب هو تخلص النظام السياسي من مفهوم " الولاية العظمي " التي تقول به جماعة الإخوان المسلمين ويحصل فيه رئيس الدولة علي صفات أبوية، وقيادة دينية، وزعامة سياسية، تخرج بنا فورا من النظم السياسية الحديثة إلي نظم سياسية متخلفة وسلطوية وفي بعض الأحيان شمولية. ولكن إذا كان ذلك كذلك فهل يكفي الحديث عن " تعديل الدستور "، وخلال فترة تنتهي في نوفمبر القادم حيث تبدأ عملية الإصلاح الدستوري، لكي يعالج هذه المشكلة الجوهرية البنائية في النظام السياسي المصري؟، والإجابة عن ذلك هي بالنفي، وتصبح الخشية هي أننا نعدل دستوريا مختلا من الناحية البنائية، وبعد سنوات قليلة نعود إلي نفس النقطة التي نقف بها الآن وهي أن النظام السياسي المختلط علي الطريقة المصرية أو الأجنبية ليس نظاما ناجحا ولا كفؤا!