الديمقراطية هي الحل ! الإصلاح هو سبيل الخلاص! عبارات رنانة باتت تلوكها ألسنة المصريين حكومة وشعبا، غير أنها لم تبارح كونها مجرد شعارات براقة هي عن أرض الواقع أبعد وإلي السراب أقرب، إذ لا يزال الجميع علي غير استعداد لتجشم عناء المغامرة وخوض غمار التجربة وتحمل ما قد يتمخض عنها من أعباء أو تداعيات قد لا تتجاوز الأمد المنظور. وأحسب أن بلادنا ربما تبقي علي حالة الخصومة والشقاق مع الديمقراطية الحقيقية ما لم يتبلور برنامج وطني مصري متكامل بشأن الإصلاح السياسي الشامل، تتبناه قوة سياسية واجتماعية يأتلف في نسيجها كافة أطياف وفئات الشعب المصري بغير استثناء. وهو ما أظن أنه لن يتأتي قبل أن يوقن الجميع بأن تلك الديمقراطية، بما تحمل في طياتها من قيم سيادة القانون، الشفافية، المساءلة، تكافؤ الفرص ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لهي خير علاج لأزماتنا ومشاكلنا المزمنة بدءا برغيف الخبز مرورا بالبطالة وانتهاء بالفساد والمحسوبية وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية المستعصية التي ما برحت تنخر في بنيان الدولة والمجتمع علي السواء. وبالرغم من الزخم الظاهري واللغط السياسي اللذين يخيمان منذ عدة سنوات علي الساحة السياسية المصرية الخاوية، واللذين يعجان بمفردات ملفتة من قبيل "الإصلاح"، "التغيير" و"الديمقراطية"، إلا أن تحليل مواقف القوي الوطنية والشعبية حيال ما يمكن اعتباره دعوة للإصلاح السياسي إنما قد يشي بخلو تلك الدعوة من أي مضمون حقيقي كما يوحي بافتقادها للجدية والمصداقية. ذلك أن القطاع العريض من أبناء الشعب المصري، والذي يضم الطبقة الدنيا وشريحة لا بأس بها من الطبقة الوسطي، لا يزال مغيبا عما يجري علي الساحة السياسية ولا يكاد ينظر لمثل هذه الدعوات الحديثة العهد بالمصريين إلا باعتبارها ترفا فكريا أو رفاهية اجتماعية يتغني بها المنتفعون من الاعتكاف علي ترديدها، شأنهم في ذلك شأن من يدعو إلي نظام غذائي نباتي أو من يبشر بلون جديد من ألوان الموضة في الملبس أو المطعم أو نمط الحياة العصرية لنخبة اجتماعية تضيق دائرتها علي أصحابها إلي أدني حد ممكن. ومن ثم لا تندرج الديمقراطية أو دعوات الإصلاح ضمن أي درجة من سلم أولويات تلك الفئة التي تمثل السواد الأعظم من المصريين. أما باقي شرائح الطبقة الوسطي، فقد انقسمت ما بين شريحة سلبية غير مكترثة بالقضية برمتها استنادا إلي تصور نمطي في هذا الخصوص مفاده أن لاجدوي ولا أمل علي الإطلاق، وأخري تؤثر السلامة وتري في بقاء الوضع الراهن رغم مساوئه ضمانة لعدم تدهور الأمور أو تردي الأوضاع نحو مزيد من السوء. أما المثقفون وقادة الرأي، وهم بمثابة القوة الدافعة لتطوير المجتمع والدفة التي تقود الطبقة الوسطي من خلالها المجتمع نحو الأمام، فقد غدا التعويل عليهم في تحريك عملية الإصلاح ودفع عجلة التغيير الديمقراطي قدما، تواكلا أو تطلعا في غير موضعه، لاسيما وأن رموز تلك الفئة وكوادرها قد تشرذموا ما بين مدجن، أو أسير لصراعات فكرية وسياسية طغي عليها العامل الشخصي لتزداد تعقيدا وديمومة، أو ساع إلي تكييف نفسه مع الوضع الراهن بل ومحاولة تعظيم فرص الاستفادة منه في تحقيق مكاسب شخصية علي الصعيدين المادي والسياسي، أي الاستعاضة عن حلم الديمقراطية المستحيل بتطلعات الشهرة والثراء والنفوذ الممكنة عبر التزلف إلي أولي الأمر والتفنن في تبرير سياساتهم وتقاعسهم في الخروج بالنظام السياسي للبلاد من النفق المظلم، علي اعتبار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، أو أن مناخ الانغلاق السياسي قد أضحي صنوا للشخصية المصرية التي ألفت التسلط ولم تتهيأ بعد ثقافيا واجتماعيا لتقبل الديمقراطية فكرا أو ممارسة، أو أن الطريق لايزال طويلا أمام المصريين لبلوغ الديمقراطية ومن ثم لا يتعين عليهم استباق الأحداث والتطورات من خلال حرق المراحل أو القفز بخطي واسعة إلي الأمام وإلا كانت العواقب وخيمة. وإذا كان التعميم في وصف أية ظاهرة يعد بمثابة ليا لعنقها وانتقاصا من الموضوعية والإنصاف في التعاطي معها، فإن الإشارة إلي الاستثناء غالبا ما يؤكد القاعدة. ذلك أن القلة القليلة التي يمكن استثناؤها من هذا التحليل لأوضاع شرائح وفئات المجتمع المصري ومواقفها بشأن قضية الإصلاح السياسي والديمقراطي، لهي أضعف وأوهن من أن تحرك دفة الأمور في اتجاه مغاير، الأمر الذي يفسر نزوع معظم رموزها المستمر نحو الانزواء أو الانعزال تلاشيا لعواقب نفاد صبر النظام حيال الإزعاج الناجم عن سباحتها المستمرة ضد التيار. وانطلاقا من هذا الطرح، يمكن تفهم افتقاد الدعوات والمطالبات العديدة التي عمت البلاد مؤخرا بشأن الإصلاح السياسي للطابع الشعبي الجامع الذي يجعل منها هدفا أو مشروعا وطنيا أصيلا، حيث تزيت تلك المطالبات بزي فئوي أو جهوي يعوزه الشمول لكافة فئات وشرائح المجتمع المصري العريض. فقد جاءت تحركات نادي القضاة من أجل إقرار قانون استقلال السلطة القضائية، وما صاحبها من تأزم لاتزال تداعياته مستمرة حتي يومنا هذا، علي سبيل المثال معبرة عن مصالح فئة القضاة الذين قض مضاجعهم افتئات السلطة التنفيذية الفج علي اختصاصاتهم وصلاحياتهم علي النحو الذي نال من هيبتهم وأضر بسمعتهم في الداخل والخارج، خصوصا فيما يتعلق بالإشراف علي العملية الانتخابية، حيث كانت الممارسات الأمنية والتدخلات الحكومية من بين الأسباب التي تجهز علي نزاهتها وشفافيتها فيما كانت المسئولية تعلق بعنق القضاء في نهاية الأمر باعتباره المشرف عليها. وفي ذات السياق أيضا، جاءت مطالبات الصحفيين بإقرار قانون إلغاء حبس الصحفي في القضايا التي تتصل بالنشر. وقس علي ذلك، مطالبات باقي فئات المجتمع كالأطباء وغيرهم والتي تتسم بالفئوية وتفتقد للتناغم أو التنسيق الجاد طويل المدي ضمن خطة متكاملة للإصلاح السياسي أو التغيير الشامل. حتي حركة "كفاية" التي إحتلت مساحة كبيرة من الاهتمام وتسليط الأضواء، لايزال بناؤها الداخلي يفتقد إلي التماسك والانسجام فهي تضم عناصر من كافة الأطياف السياسية والفكرية غير المتآلفة نسبيا، كما ارتبطت نشأتها بمطلب محدد يتمثل في رفض التمديد أو التوريث بينما لم تتبن برنامجا سياسيا شاملا وطموحا للتغيير أو الإصلاح يحتوي بدوره علي آليات واضحة ومحددة، كما أن ظاهرة ما يسمي بحركات الرفض الاجتماعي الجديدة لم تكن نابعة من نبض الشعب المصري أو متولدة من رحم الرغبة الشعبية الشديدة في الإصلاح والتغيير بقدر ما جاءت نتاجا أو صدي لمؤثرات دولية وإقليمية عديدة وعت إليها زمرة من رجال الفكر والسياسة الذين ضاقت عليهم الساحة السياسية بما رحبت فطفقوا يطلقون صيحاتهم عبر هذه الحركات في غيبة من الشارع المصري الغارق في مشاكله اليومية، الأمر الذي يوحي بغياب روح المبادرة عن تلك الحركات وارتكانها إلي سياسة ردود الأفعال فقط، علي النحو الذي يقلص من فعاليتها وقوة رسالتها بغير شك. أما الأحزاب أو القوي السياسية المصرية الأخري، فحدث ولاحرج، إذ يغدو الأمل فيها أو التعويل عليها ضربا من الساذجية، فلا يبدو بوسعها بلورة تيار سياسي رصين بمقدوره أن يتبني برنامجا وطنيا متكاملا وواقعيا بشأن الإصلاح السياسي تلتف حوله الجماهير من كل نحو وصوب ليصير مشروعا سياسيا قوميا يحمل نبض الوطن والمواطن. كيف لا؟ وقد تبارت تلك الأحزاب القائمة في الزج بنفسها إلي مستنقع الخلافات والصراعات الداخلية الطاحنة التي غالبا ما تنتهي بها إلي التجميد أو تنتقل بها من حالة الغيبوبة المزمنة أو الموت الإكلينيكي إلي الهلاك المحقق.ومن ذات المآل الموجع، لم تنج الجماعة القبطية التي اتشحت مطالبها بحقوق دينية وسياسية معينة بطابع فئوي هو إلي الطائفية أقرب. وبينما يتردد النظام في الاضطلاع بعملية إصلاح حقيقية وشاملة بغير مماطلة أو إرجاء، في حين لا يبدو المجتمع قادرا علي بلورة حركة سياسية اجتماعية وطنية بمقدورها الدفع في هذا الاتجاه ومن ثم حمل النظام علي الاستجابة وتحقيق المعجزة. تظل مطالب الإصلاح ودعوات الديمقراطية أحلاما بعيدة المنال غالبا ما تداعب مخيلة المصريين مع توفر الأجواء الإقليمية أو الدولية المواتية، لكنها سرعان ما تتبدد وتصبح سرابا فور اصطدامها بواقع مؤلم أمسي ساحة رحبة لضغوط ومؤثرات خارجية تعوزها المصداقية، ومبادرات حكومية تفتقد للجدية والاستمرارية، فيما لم يتسع لمطلب أو مشروع وطني ديمقراطي يجمع عليه المصريون.