الصراع والجدل السياسي الدائر في العراق الآن حول تمكين الدكتور إبراهيم الجعفري من منصب رئاسة الوزراء، وأثر هذا الجدل علي تعطيل عملية بناء مؤسسات النظام السياسي العراقي لا يعكس سوي اختلال الأولويات لدي النخبة السياسية العراقية، خاصة بين السنة العراقيين. فحسابات المكسب والخسارة تبين أن مخاطر بطء العملية السياسية في العراق أكبر بكثير من أي مكاسب يمكن تحقيقها من وراء استبدال الدكتور الجعفري بمرشح آخر من داخل الائتلاف العراقي الموحد فأيا كان شخص رئيس الوزراء العراقي فإنه سيظل ملتزما بالخطوط الرئيسية للبرنامج السياسي لائتلاف الأحزاب الشيعية وإلا فقد شرعيته بين أنصاره الرئيسيين, أما فيما وراء هذه الخطوط الرئيسية للائتلاف الشيعي فإن الاختلافات بين المرشحين المختلفين لتولي المنصب الأهم في النظام السياسي العراقي الناشئ يظل أمرا ثانويا لا يستحق كل هذا الشلل الذي اقترب بالعراق من مستوي الحرب الأهلية. ويرسي احتجاج الكتلتين الكردية والسنية علي شخص الدكتور إبراهيم الجعفري سابقة خطيرة في السياسة العراقية، فإعطاء الشرعية لمثل هذه الممارسة سيتيح للائتلاف الشيعي وغيره في مرحلة لاحقة الاحتجاج علي مرشحي الكتل السياسية للمناصب المختلفة، ولو من باب المكايدة والثأر، الأمر الذي يمكن له أن يدخل النظام السياسي العراقي الذي لم يولد بعد في أزمات متكررة من نوع أزمة الدكتور الجعفري. صحيح أن الائتلاف العراقي ومعه القائمة الكردية كانا البادئان بهذه الممارسة عندما توالت احتجاجاتهم علي الشخصيات السنية المسماة لتولي المناصب في الحكومة المؤقتة وفي لجنة كتابة الدستور، إلا أن مواصلة السنة والأكراد مقاومة رئاسة الجعفري للوزراء سوف تكون لها عواقب وخيمة علي مستقبل العراق، وربما يكون من المفيد التوقف عند هذا الحد في الاحتجاج علي شخص الدكتور الجعفري، وتوظيف الاحتجاج ضد الجعفري ثم القبول به لتثبيت قاعدة في السياسة العراقية يمتنع بمقتضاها كل فريق من التدخل في اختيار الأسماء المسماة من جانب الفريق الآخر لتولي المناصب العامة، خاصة وأن الفرقاء العراقيين ينتظرهم نزاع طويل حول توزيع الحقائب الوزارية والمناصب الرئيسية في الدولة، وهو أمر أهم بكثير من شخصية هذا المرشح أو ذاك. المؤكد هو أن المعارضة السنية والكردية للدكتور إبراهيم الجعفري تستفز أطرافا في الائتلاف الشيعي. بل إن المرجح هو أن أطراف الائتلاف الشيعي المتضامنة مع السنة والأكراد في مقاومة الدكتور الجعفري سوف تنتهز أول فرصة للحيلولة دون الإقرار بفيتو سني وكردي علي الخيارات الشيعية، الأمر الذي سيساهم في تعقيد العلاقات بين طوائف العراق. بالإضافة إلي ذلك فإن الجعفري الذي لا يحظي بتأييد أغلبية ضئيلة داخل الائتلاف الشيعي هو رئيس أفضل لوزراء العراق من مرشح آخر يحظي بإجماع شيعي. فانقسام الأحزاب الشيعية حول الجعفري يتيح تكوين تحالفات تتجاوز الخطوط الطائفية، بحيث يكون ممكنا تكون تحالفات بين ممثلي أقسام من الائتلاف الشيعي في مجلسي النواب أو الوزراء وممثلي الأحزاب السنية والكردية أو بعضها، الأمر الذي يمكن له أن يضعف من حالة الاصطفاف الطائفي المهيمنة علي السياسة العراقية اليوم، والتي تمثل السبب الرئيسي في الأزمة السياسية والأمنية التي تتهدد مستقبله. الأمر الأكثر أهمية من شخصية رئيس الوزراء العراقي هو طبيعة السلطات الممنوحة له، وأظن أنه من الأفضل للأحزاب السنية والكردية أن تكف عن صرف الاهتمام إلي شخص إبراهيم الجعفري، وأن تركز بدلا من ذلك علي وضع الضوابط التي تحدد سلطات رئيس الوزراء أيا كان شخصه. يرتبط بالتحول عن مناقشة شخص الدكتور الجعفري لمناقشة طبيعة سلطاته كرئيس وزراء تحولا آخر نحو مناقشة التعديلات المقترحة من جانب الأحزاب السنية وغيرها للدستور العراقي. فقد تمت كتابة هذا الدستور من جانب جمعية وطنية مؤقتة تم انتخابها عبر انتخابات قاطعها السنة، وحتي عندما أراد الشيعة تحت ضغط أمريكي تمثيل السنة في هيئة كتابة الدستور جاء هذا التمثيل رمزيا وضعيفا، فلم يكن قادرا علي التأثير في الصياغة النهائية للدستور سوي بشكل هامشي. لقد أخفق السنة في محاولة إسقاط الدستور عبر رفضه في الاستفتاء الشعبي الذي تم تنظيمه لذلك الغرض في الخامس عشر من أكتوبر من العام الماضي. ومع هذا فإن اتفاق اللحظة الأخيرة الذي تم التوصل له من أجل عرض الدستور للاستفتاء العام مازال يتيح للسنة كما لغيرهم الفرصة لتعديل الدستور. فقد كانت موافقة السنة علي عرض الدستور للاستفتاء العام مرتبطة باتفاق سياسي بين الأطراف المختلفة يتيح إعادة التفاوض علي الدستور بعد انتخاب مجلس النواب الدائم، وهي الفرصة التي لا يجب للسنة إهدارها عبر إهدار الوقت والجهد في مقاومة ترشيح الدكتور الجعفري لرئاسة الوزراء. القضية الأولي بالاهتمام من جانب السنة في هذه المرحلة هي قضية الفيدرالية. فبمقتضي الدستور الراهن سوف يجد السنة العراقيين أنفسهم خلال فترة قصيرة مهمشين في نظام سياسي يضع من السلطات في يد الأقاليم أضعاف ما يضعه في يد الحكومة المركزية، كما سيجدون أنفسهم محرومين من موارد العراق النفطية التي وضعها الدستور في يد الحكومات المحلية في المناطق والأقاليم، وهي الموارد التي تتركز في المناطق الكردية في الشمال والمناطق الشيعية في الجنوب علي عكس المناطق الصحراوية الفقيرة التي يتركز فيها السنة في الغرب. إعادة صياغة فقرات الدستور المتعلقة بتنظيم توزيع الثروة والسلطة السياسية بين الحكومة المركزية والأقاليم هو القضية الأكثر تأثيرا في مستقبل العراق ومستقبل السنة فيه، وهو أمر أهم بكثير من شخصية رئيس الوزراء الذي لن يبقي في منصبه طويلا في كل الأحوال.