برغم ما أثير مؤخرا عن احتمالات بدء حوار بين إيرانوالولاياتالمتحدة حول العراق، إلا أن الرياح الغالبة مازالت تصادمية عنيفة معبأة بحرب نفسية مشتعلة بين البلدين. وعلي مدي الأسبوع الماضي نظمت إيران مناورات بحرية في الخليج وبحر العرب، وصل عدد القوات المشاركة فيها إلي أكثر من سبعة عشر ألف جندي، ثم أتبعت ذلك بالإعلان عن نجاح تجربتين لصاروخين جديدين. الأول صاروخ باليستي بعيد المدي تقول السلطات الإيرانية أنه من الصعب كشفه بالرادار، ويحمل رؤوسا متعددة كل رأس منها يستطيع الوصول إلي هدف منفصل؛ والثاني عبارة عن طوربيد صاروخي يتحرك بسرعة عالية جدا تحت الماء ويمكنه إصابة وحدات بحرية كبيرة وإغراقها. ولقد تزامن ذلك مع الإعلان عن سيل من السيناريوهات الحربية المحتملة لعمليات هجوم أمريكية، وأمريكية-إسرائيلية وبريطانية علي إيران، وسيناريوهات لرد فعل إيراني ضد القوات الأمريكية والبريطانية في الخليج أو عمليات تخريب يتولاها عملاؤها داخل الأراضي الأمريكية والبريطانية. كل ذلك وسط أجواء صدور قرار مجلس الأمن بإعطاء إيران مهلة شهر لإيقاف عمليات تخصيب اليورانيوم وإبعاد الشبهات التي تحوم حولها بأنها تدير برنامجا سريا لتطوير أسلحة نووية. إنه التصاعد التدريجي بين الأطراف المتصارعة الذي يبدو مُسيطرا عليه في البداية، إلي أن يصل إلي نقطة انفلات تفقد عندها الأطراف قدرتها علي التحكم في مسار الأحداث فتنزلق بسرعة إلي صدام حقيقي. التركيز هنا في هذه المقالة سيكون علي موضوع الصواريخ الإيرانيةالجديدة، وما تمثله من مراحل تطور في قدرة إيران علي تحدي الولاياتالمتحدة وإسرائيل في أية حرب قادمة. علي المستوي التقليدي تمتلك إيران قدرات معقولة، فعندها صناعة حربية متقدمة للدبابات وعربات الجنود والذخيرة التقليدية وبعض أنواع الطائرات، لكنها تعول في الأساس علي قدرة صاروخية تمكنها من الوصول إلي مسافات بعيدة حيث القوات الأمريكية في الخليج، وإلي إسرائيل، وإلي مناطق في أوروبا. وفي حالة نشوب الحرب، سوف يتوقف حجم الضرر الممكن أن يصيب إيران علي قدرة تحملها لضربة إجهاض مبكر ضد قواعد الصواريخ، وأيضا علي قدرتها في المقابل علي اختراق الدفاعات المضادة الأمريكية والإسرائيلية. هذا التصور العام لمسرح العمليات الصاروخية بين إيران والغرب سوف يشرح لنا طبيعة المشروع الصاروخي الإيراني ومحاور تطوره، وهو في كل الأحوال تطور كلاسيكي مرت به دول أخري من قبل خلال الحرب الباردة، ويتكرر الآن بنفس النمط تقريبا بين إيران وخصومها داخل المنطقة وخارجها. تقول التقارير الغربية أن بداية قصة إيران مع الصواريخ كانت قبل الثورة في عصر الشاه، عندما أمدت الولاياتالمتحدةإيران وإسرائيل بصواريخ باليستية تكتيكية قصيرة المدي بأعداد محدودة (الصاروخ لانس)، وقبل ذلك كان هناك مشروع إيراني-إسرائيلي مشترك لتطوير صاروخ باليستي بتكنولوجية فرنسية، وشجعت الدول الأوروبية في نفس الوقت إيران علي البدء في مشروع نووي لتوليد الطاقة في نفس المكان الذي تقيم فيه إيران مشروعها النووي الحالي بدعم ومساندة روسية. لكن سقوط الشاه، والصدام مع الولاياتالمتحدة والغرب، غير اتجاه الدفة بالنسبة لإيران وجعلها هدفا لحظر شامل من قبل الدول الغربية في مجال السلاح. ثم كانت الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988 والتي لعبت فيها الصواريخ دورا كبيرا فيما عُرف وقتها بحرب المدن، حيث تعرضت بغداد وطهران إلي ضربات مئات من الصواريخ الباليستية ذات التكنولوجيا الكورية الشمالية والصينية والروسية. ويعتبر الصاروخ "سكود" الروسي "الأب الروحي" لأجيال الصواريخ التي انتشرت في الشرق الأوسط، ويعود نَسَب الصاروخ "سكود" إلي الصاروخ الألماني الشهير "في-2" الذي ضرب لندن أثناء الحرب العالمية الثانية بأعداد كبيرة وإن لم يماثله في كل التفاصيل. إيران مثل غيرها من الدول الموضوعة تحت الحصار اعتمدت علي السوق غير الرسمية للحصول علي تكنولوجيا الصواريخ، وأيضا السوق الرسمية من خلال تفعيل علاقاتها مع روسيا والصين وكوريا الشمالية مستخدمة في ذلك إغراء النفط لبلد مثل الصين، وإغراء النقود والعملات الصعبة لدول مثل كوريا الشمالية وروسيا. وبجانب ذلك لا يمكن بطبيعة الحال تجاهل قدرات العلماء الإيرانيين أنفسهم في تطوير العمل خاصة أنهم منتشرون بشكل كبير علي مستوي العالم. وهناك أكثر من مركز مهم لأبحاث الصواريخ في إيران تشير إليه التقارير، مثل مركز ابحاث علوم وتكنولوجيا الدفاع علي بعد ثمانين كيلو مترا تقريبا من طهران، ومصانع إنتاج الصواريخ الموجودة في أصفهان وسمنان، ومراكز التصميم المنتشرة في سلطان أباد و لافيزان علي أطراف العاصمة طهران. بجانب عائلة من الصواريخ قصيرة المدي يعتبر الصاروخ "شهاب-3" صاروخ الردع الحقيقي لإيران، ويصل مداه إلي حوالي 1300 كيلومتر، ويحمل رأسا حربية زنتها 800 كيلوجرام من المتفجرات التقليدية، ومن غير المعروف علي وجه التحديد قدرة هذه الصواريخ علي حمل رؤوس كيماوية أو بيولوجية. وجري الحديث بعد ذلك عن زيادة مدي الصاروخ إلي 1500 كيلومتر لكنه في كل الأحوال اعتمد بشكل أساسي علي الوقود السائل الذي يتطلب وقتا أطول في الإعداد وتجهيزات أعقد مقارنة بالصواريخ المستخدمة للوقود الصلب، والتي تخرج من صناديق حفظها جاهزة للإطلاق. وبدون الدخول في تفاصيل فنية كثيرة، يمكن قراءة محاور تطوير الترسانة الصاروخية الإيرانية في ضوء التحديات التي من المفترض أن تواجهها في حال نشوب الحرب. المحور الأول: زيادة المدي وأهمية زيادة المدي ترجع إلي أن إيران تواجه الولاياتالمتحدة القريبة والبعيدة في نفس الوقت. الأولوية إذن بالنسبة لإيران الوصول إلي مناطق حشد القوات الأمريكية في منطقة الخليج وتجمعات سفنها الحربية. والوصول إلي عمق إسرائيل. وأيضا وضع بعض الدول الأوروبية تحت الضغط الصاروخي من منطلق أن هؤلاء جميعا أعضاء في حلف الناتو. وأخيرا -وهو الهدف البعيد- الوصول إلي الأرض الأمريكية نفسها. وأهم عنصر في تحقيق المدي هو حجم وقدرة المحرك الصاروخي المستخدم، وهناك تقارير كثيرة تشير إلي حصول إيران علي محركات روسية من تلك التي كانت مستخدمة في الصواريخ الباليستية متوسطة المدي والتي تمت إزالتها طبقا لمعاهدات سابقة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي السابق. ولقد سجلت أقمار التجسس الأمريكية بالفعل خلال صيف 2005 تجربة لمحرك صاروخي ضخم داخل إيران. ويمثل المدي عنصر ردع مهما، فبصرف النظر عن قدرة الصاروخ علي التدمير فإن مجرد إحساس دولة ما أنها أصبحت داخل مدي صاروخ معين سوف يجعلها في حالة قلق نفسي يمكن أن يضطرها إلي اتخاذ إجراءات وقائية معقدة، أو دفعها إلي عمل انتقامي مبكر. ثانيا: زيادة الدقة لقد ركزت إيران علي زيادة دقة صواريخها منذ فترة. فقد صرحت منذ سنة تقريبا أنها قامت بتجربة صاروخ شهاب-3 مطور ودقته أعلي في إصابة الهدف. وتعني زيادة الدقة التحول من ضرب المدن عشوائيا إلي ضرب الوحدات والقطع العسكرية التي تحتاج إلي دقة عالية للوصول إليها خاصة في حالة وجودها علي مسافات بعيدة. ولقد جرب صدام حسين من قبل خلال حرب الخليج 1991 ضرب قاعدة عسكرية أمريكية في الظهران في السعودية بالصواريخ، وقُتل في هذا الهجوم عدد من الجنود والضباط الأمريكيين، لكن ذلك كان علي الأرجح حظا حسنا أكثر منه دقة حقيقة في هذا الجيل من الصواريخ. ثالثا: التخفي من الرادار وهذا ما أعلنته إيران مؤخرا بأنها نجحت في تطوير صاروخ باليستي لا يمكن كشفه بسهولة بواسطة الرادار. وهذه التكنولوجيا موجودة منذ سنوات ومستخدمة في الطائرات (الطائرة الشبح) ويمكن استخدامها أيضا في الصواريخ عن طريق استخدام مواد معينة في بناء هياكلها أو عن طريق نوع الطلاء الخارجي. وعندما تعلن إيران نجاحها في ذلك فهي تخاطب بالدرجة الأولي إسرائيل ونظام الصواريخ المضاد للصواريخ "الأرو" الموجود بالخدمة هناك منذ فترة، والذي يعمل في نفس الوقت مع بطاريات الصواريخ باتريوت الأمريكية الموجودة أيضا في إسرائيل منذ حرب الخليج 1991. وهذه الأنظمة المضادة للصواريخ تعتمد في الأساس علي الرادار في اكتشاف الصواريخ المهاجمة، ثم في اعتراضها وتدميرها قبل وصولها إلي أهدافها. فإذا كانت الصواريخ المهاجمة تمتلك خاصية التخفي من الرادار فإن اعتراضها وتدميرها لن يكون أمرا سهلا. رابعا: الرؤوس المتعددة وهي خاصية أعلنت إيران أنها موجودة في صاروخها الذي أعلنت اختباره مؤخرا. ومعني هذه الخاصية أن الصاروخ ينطلق وهو يحمل رأسا واحدة تنفتح عند وقت معين أثناء الطيران وتخرج منها رؤوس متعددة كل واحدة منها تتجه إلي هدف محدد لها من قبل. وهي تكنولوجيا معقدة كانت قاصرة علي الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، وكان الهدف منها "اختراق" النظم الدفاعية المضادة للصواريخ والتي سوف تنطلق في البداية لاعتراض الصاروخ الأم ثم تُفاجأ أن الرأس خرجت منها رؤوس في اتجاهات مختلفة، والنتيجة إرباك النظام الدفاعي وإفقاده القدرة علي منع الصاروخ المهاجم من اختراق السياج الدفاعي إلي الهدف. وهناك من يشكك (إسرائيل بالذات) في قدرة إيران علي تطوير هذه التكنولوجيا بنفسها، أو في امتلاكها عن طريق طرف آخر، لكن في كل الأحوال هناك عامل مهم ينساه البعض أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات والحاسبات الآلية قد جعلت من هذه التطبيقات أمرا أكثر سهولة عما كانت عليه منذ ثلاثين عاما، حيث أنها بجانب بعض التعقيدات الميكانيكية تعتمد في الأساس علي عنصر التوقيت وبرمجة السيناريوهات المختلفة لانطلاق الرؤوس المتعددة. خامسا: المسرح البحري وهذا البعد قد يحتاج إلي مقالة منفردة، لكن ما أعلنته إيران هذا الأسبوع من تجريبها "لأسرع صاروخ بحري في العالم" قد لفت النظر إلي البعد البحري في أي صراع قادم في الشرق الأوسط. إسرائيل مثلا تمتك حاليا قوة بحرية متطورة ونامية ترشحها للعمل في المياه البعيدة خاصة بعد حصولها علي الغواصات الألمانية المتقدمة وهي في سبيلها إلي الحصول علي مزيد من هذه الغواصات. ومن بين السيناريوهات المطروحة أن تضرب إسرائيل إيران بصواريخ تنطلق من الغواصات، ونفس الشئ ينطبق علي بريطانيا المتخصصة في ضرب صواريخ الكروز من الغواصات (استخدمتها في حرب الخليج 1991 وفي حرب كوسوفو). وهناك أيضا المدمرات الأمريكية المحملة بصواريخ الكروز الشهيرة. ومهمة الصاروخ الإيراني الجديد -وهو في الحقيقة طوربيد مزود بمحرك صاروخي- التحرك تحت سطح الماء بسرعة عالية وتدمير الغواصة أو السفينة الحربية غير القادرة في هذه الحالة علي المناورة أو الدفاع عن نفسها إذا جاء الهجوم عليها من أسفل. هذه هي باختصار محاور التطوير الصاروخية الإيرانية والتي يتردد الحديث حولها هذه الأيام، وهي تمثل منظومة من الفعل ورد الفعل، والدفاع والهجوم، والوسيلة والوسيلة المضادة. وهو طرح عسكري وتكنولوجي سهل قوله أو شرحه علي الورق، وصعب تحويله إلي واقع في معركة حقيقية. أما نسبة الحقيقة من الخيال والتهويش من القدرة الفعلية لهذا الطرف أو ذاك في تلك المرحلة من الصراع سوف تثبته الأيام القادمة، عندما يفقد الجميع سيطرتهم علي حركة الأحداث ويجدون أنفسهم بلا وعي في معركة حقيقية.