يمثل تناول تجربة وعصر محمد علي والذي ولد من سلالة ألبانية في بلدة قولة علي حدود مقدونيا.. وهي نفس البلدة التي ولد بها الإسكندر الأكبر أهمية كبيرة خاصة في ظل مجريات الأحداث والتي لم تسلم من الصعوبات والمؤامرات حتي نجح في بناء الدولة الحديثة. ولعل في مقدمة الاعتبارات التي تحيط حاليا بتناول محمد علي وعصره الآتي: أن هناك اهتماما مشتركا سواء علي مستوي الدولة ومؤسساتها الثقافية والعلمية والأثرية بتناول هذا الموضوع بل وتجديد آثاره ومقتنياته هذا بجانب.. ما يثيره المؤرخون والسياسيون ومراكز الأبحاث من اهتمام شديد لاستعادة الذاكرة حول دور هذا الرجل والذي يمثل عصره وآثاره إضافة تاريخية لها جذورها في تاريخ مصر الحديث سواء داخليا من خلال إنجازات أو صراعات أو مؤمرات مرت بعصره.. أو خارجيا من خلال تكالب خصومه أو القوي الأجنبية فقط حينذاك علي الإطاحة به ليس طمعا في حكمة شعبها ولكن للنيل من مصر واستغلالها وإرادة شعبها. إن هذا الاهتمام أيضا والتحديث في كتابة التاريخ يلتقي مع مناسبتين مهمتين أولهما: مرور مائتي عام علي عصر محمد علي حتي الآن. وثانيهما: هو الضرورة التي تؤكد عليها مدرسة المؤرخين التي تتميز بالصدق والدقة العلمية والتاريخية لإتاحة المعرفة للجيل الحالي من الشباب وكذا أجيال المستقبل. عن تاريخ أمتهم ووطنهم مما يزود عنهم الجهل بالمعرفة والعلم والخبرة. فها هو حقائق وتاريخ يمثل ويجسد منبعا لينهل منه فيزدادوا تجربة وخبرة. وإلي جانب ذلك فمن الجدير بالتحية والإشادة أن دار الكتب والوثائق القومية والتي يرأس مجلس إدارتها حاليا أ.د. محمد صابر عربي.. والذي يثابر وزملاؤه والخبراء علي تجديد وتحديث الدار كتبها ووثائقها ومقارها. وأسلوب العمل بها قد صدر مؤخرا عدة كتب لرموز مؤرخة وثقافية مصرية مشهود لها تسرد وتتضمن تاريخ محمد علي وعصره بما له وما عليه وقد كان من بين الكتاب والمؤلفين الزعيم الوطني الكبير الراحل محمد بك فريد "1868 1919" رفيق الزعيم مصطفي كامل وخليفته في قيادة الحزب الوطني المصري في العقدين الأولين من القرن العشرين. ولعل العبارات والفقرات التي وردت في تصدير كتاب محمد علي وعصره والصادر عن دار الكتب والوثائق القومية مؤخرا... وإن كانت تمثل لأول وهلة التقاء مع ما يرد في وجدان غالبية مصرية عن تاريخ الرجل.. إلا أنها في مواقع أخري تستوقفنا وتفاجئنا إلي حد ما إلي ضرورة الإلمام المتكامل بكل مجريات الأحداث والتاريخ في عصره لكي نستكشف أكثر وأكثر.. صعودا وهبوطا نجاحا وإخفاقا.. فالأمر كما تشير تلك العبارات والفقرات كنتيجة يحتاج مزيدا للدراسة والتحليل وليس ما كتب هو كل التاريخ. ولعلني هنا أجد في إطار التدقيق أن أتناقل بين الفقرات في تصوير هذا الكتاب ومقدمته لأسجل ما ورد بها بكل دقة كالآتي: تجربة محمد علي ستبقي من أغني التجارب وأكثرها اختلافا بحكم الإنجازات الكبيرة التي تحققت علي الرغم من أن جانبا آخر في التجربة مايزال في حاجة إلي المزيد من الدراسة ويتمثل في الإجراءات القمعية وعمليات السخرة التي صاحبت أعمال المنافع العامة التي اتسمت بقدر كبير من القسوة. أعتقد أن عصر محمد علي كان نموذجا للانتصارات والإخفاقات في آن واحد.. فما تحقق علي كل المستويات العسكرية والاقتصادية والتعليمية يعد شيئا استثنائيا في التاريخ المصري الحديث فقد تحققت بموارد مصرية خالصة ودون أن يضطر الرجل إلي مد يده للاقتراض من دولة أجنبية.. ولكن ما لبثت هذه التجربة أن تراجعت بمجرد وفاته وحتي قبل الوفاة بعدة سنوات وفي موضع آخر لعل إعادة النظر في دراسة الأوضاع الاجتماعية والقواعد التشريعية الصارمة التي اتسمت بقدر كبير من القسوة تبين سببا مهما من بين أسباب التدهور حينما فقد الرجل سيطرته علي مقاليد الأمور كما كان شعور المصريين وهم يبنون هذه المشاريع الكبيرة إنهم بمثابة أنفار في دولة محمد علي.. ومن ثم فلم يتحمس أحد للدفاع عن التجربة حينما تعرضت للانهيار. وأضاف لقد كان انقطاع السياق التاريخي واحدا من أهم العوامل السلبية التي بددت من قدرة الوطن وأسلمته إلي مجموعة من التجارب والسياسات التي حدت من انطلاقه وجعلته في كل مرة وكأنه يدور في حلقة مفرغة، كل حلقة تسلم تلقائيا إلي الحلقة التي تليها دون أن يترتب علي ذلك تراكما حضاريا كافيا.. بينما كل التجارب العالمية التي حققت قدرا كبيرا من التقدم كان درسها الأساسي أن عملية التراكم كانت بمثابة القاعدة الأساسية التي دفعت بتلك الدول إلي التقدم والازدهار. وإزاء كثرة ما قيل عن محمد علي وعصره والذي لا يتسع المقال لتناوله وسرده.. فلنتناول ما ورد من خلال تجميع لمؤرخين عن تاريخه وعصره بنحو لا يختزل حق الرجل ولا يتجاوز حدود المقال وسطوره.. إلا أنه لا يخل بالموضوعية والتجريد. أولا: محمد علي وبناء دولته الحديثة في مجال التحديات والعقبات التي واجهته الاقتصاد والتجارة والضرائب: اتسعت مساحة الأراضي الزراعية المعفاة من الضرائب مثل أراضي الأوقاف وأراضي الوسية التي كانت مخصصة للملتزمين يزرعونها لحسابهم... وكذا تمتع شيوخ القري ببعض الإعفاءات الضريبية علي أراضيهم وكذا علماء الدين... ومشايخ البدو وهو ما مثل عبئا مضاعفا علي الفلاحين من جانب آخر خاصة وقد تراجعت سلطة الدولة علي أراضيها لتصبح شكلية لأن الفائض في القطاع الزراعي يذهب معظمه لطبقة الوسطاء الملتزمين في شكل عدد من الضرائب الإضافية والتي أصبحت تزيد علي الضريبة الأصلية الميري، والتي تحصل لصالح السلطة المركزية "السلطة العثمانية صاحبة السيادة في مصر". ويعترف بذلك الإدارة المالية بمصر ويطلق عليها الرزنامة اختلال في نظام النقد وعدم ثبات قيمة العملة. تهديد المماليك واللصوص والمحترفين للطرق والتجارة والأسواق فكيف واجه محمد علي تلك التحديات للإعداد لمشروع بناء الدولة الحديثة: 1 حطم القوي المعارضة له الواحدة تلو الأخري وانتهي من ذلك عام 1815 . 2 بناء اقتصاد متنوع ومستقل في إطار السوق العالمي تلعب الدولة الدور الرئيسي فيه فأصبحت شبه المحتكر لوسائل الإنتاج خاصة في الزراعة والصناعة.. وقام بسلسلة من الخطوات في القطاع الزراعي الذي يهم غالبية المصريين حينذاك فألغي نظام الالتزام وأسقط طبقه الوسطاء من الملتزمين. وأجري مسحا شاملا للأرض الزراعية فصادر أراضي الرزق والأوقاف ومعظم أراضي الوسية وأعاد توزيع الأراضي في القري علي الفلاحين وأصلح نظام حيازة الأرض وقام بتوسيع الرقعة الزراعية. وإدخال محصولات جديدة مثل القطن طويل التيلة في عام 1821 والاحتفاظ بالفائض من الزراعة داخل البلاد. 3 تعبئة قوي العمل عن طريق السخرة لإقامة المشروعات العامة. 4 إجراء إصلاحات ضريبية علي الأطيان والأراضي الزراعية. 5 واجه مخاطر قرارات وسياسات الدولة العثمانية ومواقف الدول الأوروبية خاصة إنجلترا... بمزيد من احتكاره لمنتجات تجارته الداخلية وتحكمه في جانب كبير من الواردات لطلب المصانع ودعم احتياجات الجيش والأسطول. 6 إصلاح شامل لإقامة قاعدة الصناعة الكبري ونظام النقد بتوحيد وحدة النقد المصري. 7 أول من أقام قاعدة صناعية كبري لتصنيع الأسلحة وإعداد نواة لأسطول البحر الأحمر البحري ببناء ثماني عشرة سفينة وإنشاء مصانع للذخيرة والبارود.. وإلي لقاء آخر.