في كل مرة تأتي فيها ذكري غزو الولاياتالمتحدة للعراق، تُطرح مجموعة من الأسئلة حول حصاد الغزو العسكري، وإلي أي مدي بالنسبة لأمريكا قد حقق أهدافه المعلنة قبل الغزو. وعادة ما تكون الإجابات علي تلك الأسئلة متناقضة طبقا للزاوية التي ينظر من خلالها المجيب، لكن الاتفاق يكون علي شئ واحد: هو أننا أمام "عملية" سياسية دولية وإقليمية أكبر من أن تكون مجرد "عملية غزو عسكري" كلاسيكية لدولة ضد أخري تنتهي بهزيمة طرف وانتصار الطرف الآخر. في حالة العراق، هناك حقيقة مبدئية معروفة للجميع يجب أن يسبق الاعتراف بها أية عملية تقييم أو تنبؤ بالمستقبل، وهي وجود طيف واسع من الزعامات والجماعات العراقية ذات التاريخ الوطني الطويل كانت تري بدون غضاضة قبل الغزو أن التخلص من نظام صدام حسين ضروري لمستقبل العراق بغير أن يمنعها ذلك من الدعوة اليوم إلي رحيل القوات الأمريكية، وانتقاد قراراتها وتصرفاتها قبل الحرب، وخلال الفترة التي تلت سقوط النظام. ولو أجرينا استفتاء داخل العراق اليوم علي عودة صدام حسين ونظامه القديم، لصوت أغلبية العراقيين ضد عودة صدام. ولو أجرينا استفتاء آخر عن أحول العراقيين المعيشية اليوم مقارنة بأحوالهم تحت نظام صدام لصوتت الأغلبية في صالح أن الأحوال بعد الغزو أسوأ بكثير من الأحوال قبل الغزو. كل ذلك يجعل من عملية التقييم عملية صعبة ومركبة، بدون أن يُجيز ذلك لنا تجاهل وجود أجندة أمريكية للغزو اهتمت في الأساس بمصالح الولاياتالمتحدة قبل اهتمامها بسعادة العراقيين، وأيضا وجود أجندة أخري مقابلة لقوي عراقية داخلية مهدت للغزو ودعمته ورحبت به في إطار مصالح ذاتية كانت تسبق مصلحة العراق كوطن واحد يضم كل العراقيين. بعد ثلاث سنوات من الغزو نجد أنفسنا الآن أمام خليط من النتائج ينظر إليها الأطراف كل علي حدة من منظور مختلف. الرئيس بوش مثلا يكرر اليوم في تصريحاته الأخيرة أن الولاياتالمتحدة قد نجحت في إزالة نظام صدام حسين وأنها أصبحت بذلك أكثر أمنا مما كانت عليه من قبل. ومع اتفاق أغلبية الأمريكيين علي أهمية إزالة نظام صدام طبقا لاستطلاعات الرأي التي سبقت الغزو، لكنهم يرون أن أخطاء التخطيط والتنفيذ للغزو قد خلقت مخاطر جديدة ربما أكثر من خطورة وجود صدام خاصة إذا حدث وسقط العراق في آتون الحرب الأهلية وتحول إلي دولة مفككة يجد فيها الإرهاب موطنا مثاليا كما فعل من قبل في أفغانستان وفي مناطق أخري من العالم. لذلك يري الأمريكيون أن هناك فشلا في التنفيذ حتي لو كان مشروع الغزو نفسه مبررا. ويتفق أيضا أغلبية من العراقيين مع هذا الرأي، ويرون أن الصعوبات الحالية حدثت بسبب تجاهل الأمريكيين لنصائح عراقية كانت لا توافق علي حل الجيش والبوليس والأجهزة الأمنية خوفا من أن يؤدي غيبة هذه الأجهزة إلي تفكك دولاب الدولة وانهيارها بعد ذلك وهو ما حدث بالفعل خلال فترة قصيرة. وبرغم تدهور الأحوال الأمنية، مارس العراقيون أشياء كانت بعيدة تماما عن أحلامهم في عصر صدام حسين. مارسوا عددا من الانتخابات الحرة لاختيار نواب لهم في البرلمان، ووصلت معدلات اشتراكهم في الانتخابات الأخيرة لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية الدائمة إلي ما يقرب من 75% من الأعداد المسجلة. كما مارسوا حوارا حول دستور دائم جديد للعراق، وهم الآن في انتظار تشكيل أول حكومة وطنية عراقية في ظل الدستور الجديد. هناك أيضا جهودا مستمرة دءوبة لبناء وتدريب جيش وبوليس عراقي، وبالتدريج أخذت وحدات الجيش والبوليس الجديدة في تحمل مسئولياتها في التصدي لقوي التخريب والفتنة الطائفية والدينية. وفي مقابل ذلك ظهرت أعراض خطيرة لتفسخ طائفي ناتج عن ميل البعض إلي استغلال الظروف من أجل تحقيق مصالح طائفية ضيقة. وينسي البعض عند تناول موضوع اشتعال الصراع الطائفي في العراق أن الأكراد والشيعة خلال حكم صدام قد تعرضوا لأعمال قمع وتصفية وصلت إلي حد استخدام الأسلحة الكيماوية ضد مدنهم. لكن بعيدا عن قهر النظام، لم يكن هناك عداء مستحكما بين طوائف الشعب العراقي، والدليل علي ذلك أن المعارضة العراقية ضد نظام صدام كانت خليطا من كل الفئات، وكان همهم الأول الخلاص من صدام ثم إقامة نظام فيدرالي يجمع كل العراقيين في وطن واحد يتقاسم فيه الجميع السلطة والثروة طبقا لقواعد دستورية عادلة. الخطر الذي يهدد العراق الآن هو في إمكانية انزلاقه إلي حرب أهلية رغما عن رغبة أهله وبفعل القوي المضادة لوجود دولة عراقية موحدة وقوية. التحدي الأكبر الذي فاجأ الأمريكيين بعد الغزو هو وجود قوة مضادة تركز في الأساس علي تدمير مؤسسات الدولة العراقية وعرقلة عملية إعادة البناء من خلال القضاء علي الجيش والبوليس والشخصيات الحكومية بحجة أنهم يتعاونون مع قوة الاحتلال. ويمتد هذا النشاط المعاكس إلي تدمير البنية الأساسية من محطات مياه وكهرباء وطرق وأنابيب وكل ما يتصل ببناء بنية أمنية مستقرة. ويضاف إلي ما سبق حدوث عمليات خطف وذبح وتفجير ضد العراقيين أنفسهم علي أساس طائفي وديني وأحيانا عشوائي. وفي البداية كان هناك تنبه ووعي من الأطراف السياسية بأن ما يحدث ناتج عن تخطيط خبيث لإحداث فتنة داخلية، لكن هذا الوعي تآكل مع الوقت نظرا لتضخم الظاهرة ووصولها إلي أماكن العبادة والمراقد المقدسة للشيعة والسنة بغرض إذكاء روح الثأر والانتقام عند الآخرين. ما يحدث في الحقيقة ليس حربا أهلية بالمعني التقليدي، فنحن لا نري أيا من الزعماء السياسيين أو الدينيين يحرض علي العنف علانية أو يقترفه بنفسه أو جماعته ضد الآخرين إلا فيما ندر، بل علي العكس هناك حرص علي التهدئة والدعوة إلي عدم الرقص علي أنغام الإرهابيين خاصة أن القتلي والمفقودين ينتمون إلي كل الطوائف. لا يوجد أيضا حالة تعبئة مسلحة بين الطوائف ولكن حوادث مأساوية مجهولة وموجهة بصورة توحي بوجود فتنة طائفية علي أمل أن يصدق الناس وينزلقون بدون وعي إلي جحيمها. الخلاصة، ومهما كانت طبيعة الإنجاز الذي تحقق في العراق وحجمه، تواجه الولاياتالمتحدة مأزقا حقيقيا علي المستوي العسكري وأيضا علي المستوي السياسي. هذا المأزق لا يمثل تحديا للولايات المتحدة وحدها بل أيضا للعراق وجيران العراق. فالعراق الرسمي ممثلا في الحكومة والجيش والبوليس يحارب مع الولاياتالمتحدة ضد القوي المضادة التي تمتلك حرية حركة غير مسبوقة نتيجة براعتها في خلط الأوراق واللعب بالألفاظ واستغلال أخطاء التحالف الأمريكي-العراقي. هناك ضرورة لإقامة حوار وتنسيق مع جيران العراق بصورة أكثر برجماتية خاصة مع سوريا وإيران. وكذلك إقامة علاقات مع القوي الداخلية العراقية غير المتورطة في أعمال الإرهاب أو المتحالفة مع جماعات أبو مصعب الزرقاوي. وعلي نفس المستوي من الأهمية إقامة تعاون مع الجامعة العربية من أجل استئناف جهودها في تحقيق المصالحة العراقية بدعم من الدول العربية المؤثرة مثل مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا ودول الخليج. أما الجانب العراقي فعليه حسم موقفه بسرعة في ذلك الوقت الحرج. لقد اختار العراق طريق الديموقراطية، لكنه يحتاج في بداية الطريق إلي فهم واستيعاب لأهمية تحقيق التوافق بين طوائفه والخروج بحكومة وطنية ممثلة للجميع تعمل علي وأد الفتنة الداخلية قبل أن تستفحل. لقد كان مهما استغلال الوقت بصورة أفضل، وامتلاك المبادرة في مواجهة الإرهاب الذي يعمل بدون هوادة لجذب العراق إلي مستنقع دموي. إن سيطرة الجيش وقوات الأمن العراقية علي كل بقعة من أرض العراق له أهمية قصوي في المرحلة القادمة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال حكومة وحدة وطنية قوية تدعم حركة الجيش في معركته مع الإرهاب والفوضي. لا يوجد في الحقيقة أمام الجماعة السياسية العراقية مجالا للمزايدة والأنانية أو ابتزاز الآخرين، بل المطلوب دعم روح المشاركة وتحمل المسئولية وحسن تحديد العدو والصديق. إن التحدي المطروح خلال عام 2006 هو في كيفية تفعيل آليات التعاون الداخلي والدولي والإقليمي من أجل النظر في حل مشكلة العراق وأفغانستان والصراع العربي الإسرائيلي كحزمة واحدة من منظور إقليمي يعطي فرصة للجميع من أجل الخروج فائزين، مع إعطاء أولوية قصوي لهزيمة الإرهاب والفوضي كخطر يهدد الجميع.