في واقعة لا مثيل لها، ويمكن أن تمثل سابقة خطيرة، اتخذت مني الصغير رئيس الرقابة في التليفزيون قرارا بتأجيل إصدار تقرير نهائي بشأن فيلم "بركان الغضب" للمخرج مازن الجبلي إلي حين عرضه علي إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة والحصول علي موافقتها بعرض الفيلم علي شاشة التليفزيون!! وجه الإثارة في الأمر أن رقابة التليفزيون تتجاوز اختصاصاتها وتنقلب علي مهام وظيفتها، بل وتتخلي عن المهام المنوط بها تنفيذها طواعية، عندما تمنح صلاحياتها لجهات أخري بينما هي غير مطالبة بذلك علي الإطلاق، سواء لأنها تستطيع اتخاذ القرار الذي يمليه عليها موقعها وواجبها الوظيفي، أو تطبق قواعدها التي طالت أفلاما كثيرة من قبل دون أن يلجأ رقيب في التليفزيون إلي تجاوزها أو التزيد عليها بتأجيل النظر في عرض فيلم ما إلي حين عرضه علي جهات أخري؛ خصوصا أن رقابة التليفزيون لم تكتف بهذا التأجيل الذي يعكس قصور نظر في رؤيتها، ورعشة أصابت أيدي رقبائها، بل تمادت بالقول إن الفيلم تجاوز الخطوط الحمراء واقترب من محاذير تخشي الرقابة من طرحها نظرا لحساسية موضوع الفيلم، فإذا تأملنا الخطوط الحمراء التي أثارت ذعر رقابة التليفزيون سنكتشف أنها تتحفظ علي (مابه من شحذ للمشاعر تجاه إسرائيل)، وكأنه سبب يدعو رقابة التليفزيون المصري إلي تأجيل عرض الفيلم، ولكونها تدرك انه سبب ساذج لا ينطلي علي أحد، بل يمكن أن يكون سببا في تأليب الرأي العام ضدها عادت لتبرر التأجيل بقولها (التوقيت سيء، حيث يعقد قريبا مؤتمر السلام الدولي بجوهانسبرج، وهو ما يدعو إلي عدم الحماسة لعرض الفيلم) وهو مبرر لايقل غرابة عن سابقه بل يعكس تخبط رقابة التليفزيون إضافة إلي انفصالها الواضح عما يحدث من حولها في المجتمع من حرية وشفافية واتساع لرقعة الديمقراطية وتكريس مناخ التعددية؛ خصوصا إن الرقابة أضافت إلي تحفظاتها العجيبة بعدا آخر رأت خلاله أنه من غير المقبول ظهور الشخصيات الرافضة للاعتراف بدولة فلسطين عبر التاريخ، في تترات الفيلم، وكذلك وقوع ضحايا إسرائيليين دون الإشارة من قريب أو بعيد إلي رغبة الجانب العربي للسلام، والإيحاء بإشارة رمزية مستترة إلي الهيمنة الأمريكية علي المنطقة والعالم، والتأكيد علي الصفقات التي يبرمها تجار السلاح علي حساب الأبرياء، وإعطاء الفيلم الحق للفلسطينيين في الإيقاع بضحايا إسرائيليين من باب الأخذ بالثأر، فالملاحظات الرقابية تتجاوز هذه المرة درجة التحفظات لتصل إلي حد التدخلات؛ فالرقابة ليس من حقها، إطلاقا، الاعتراض علي موقف سياسي يتبناه أي فيلم كما انه ليس من حق الرقباء أن يتدخلوا في طريقة كتابة السيناريو بالتعديل، سواء بالحذف أو بالإضافة، فما الجرأة التي واتت رقباء التليفزيون ودفعتهم للقول أن الفيلم أظهر وقوع ضحايا بالجانب الإسرائيلي دون أن يشير إلي رغبة الجانب العربي في السلام، والمزايدة بالقول أن الفيلم يحمل إسقاطات تؤكد الهيمنة الأمريكية علي المنطقة، وكأنها ليست حقيقة يدركها النظام نفسه الذي تحاول رقابة التليفزيون أن تزايد عليه ثم ما شأن الرقابة بتجار السلاح والصفقات التي يعقدونها لتعترض علي الحديث عنهم (!) الموقف غريب وعجيب، وكان من الأحري بهؤلاء الرقباء أن يتجهوا لكتابة السيناريو ليصنعوا أفلاما تتبني هذه الرؤي الملفقة التي يروجون لها، دون المساس برؤي الأفلام التي تعرض عليهم أو التحفظ عليها ثم تأجيل الموافقة عليها بحجة عرضها أولا علي جهات أخري؛ فهي خطوة متأخرة للغاية ولا سبب يدعو للأخذ بها؛ فالفيلم الذي تعترض عليه رقابة التليفزيون الآن حصل علي موافقة الرقابة علي المصنفات الفنية، كسيناريو ثم كنسخة نهائية للعرض التجاري، بغض النظر عن قيمته الفكرية أو مستواه الفني، وكان من الأولي برقابة التليفزيون أن تعمل قواعدها الرقابية المنصوص عليها في هذا الشأن فتخفف عبارة أو تحذف مشهدا لا يليق عرضه علي جمهور المشاهدين دونما اللجوء إلي تحويل فيلم أو مصنف فني معروض عليها إلي رقابات أخري والا انتفي الهدف من وجودها، خصوصا إن السيدة مني الصغير الرئيس الحالية لرقابة التليفزيون ترسي قاعدة خطيرة بتأجيلها النظر في عمل معروض علي رقابتها انتظارا لرأي جهات أخري ليست معنية في هذا التوقيت بالنظر في أمر كهذا، لأن مسئولية إحالة سيناريو "بركان الغضب" تقع علي الرقابة علي المصنفات الفنية، وسواء فعلت هذا أو لم تجد ضرورة آنذاك؛ فالفيلم عرض تجاريا بل وسبق عرضه في المهرجان القومي التاسع للسينما المصرية في ابريل من عام2003 دون أن يثير الضجة التي تخشاها رقابة التليفزيون، التي نتوقع أن تصبح خطوتها التالية أن تتحفظ علي عرض فيلم "أصحاب ولا بيزنس" لأنه يتضمن مشهدا لاستشهادي تراه رقابة "الصغير" انتحاريا، وتؤجل النظر في عرض "صعيدي في الجامعة الأمريكية" لأن البطل يحرق فيه العلم الإسرائيلي.. وهلم جرا!! المفارقة التي ينبغي أن تكون محل اعتبار أنس