لجأت إيران، في الأسابيع الأخيرة، إلي تصعيدين كبيرين علي الأقل، فيما يتصل بالموضوع النووي. فهي ردّت علي الوكالة الدولية للطاقة وقرارها تحويل الموضوع إلي مجلس الأمن، بلهجة سادها التحدي، مطالبةً الوكالة بإزالة أجهزتها التي تتولي مراقبة المنشآت الإيرانية. وفيما كان العالم يتوقع الانفراج مع الزيارة التي يفترض أن يؤديها وفد إيراني إلي موسكو، في هذا الشهر، لبحث الاقتراح الروسي المدعوم من الصين، إذا بطهران تعلن تجميد التحرك علي الجبهة هذه. ومعروف أن الخطة الروسية، التي حفّ بالموقف الإيراني منها، منذ بدايتها، الغموض والتناقض، تتيح لطهران المضي في التخصيب شريطة تنفيذه علي الأراضي الروسية، ما يضمن عدم حرف الجهد المدني لتوليد الكهرباء باتجاه عسكري. هكذا يتفاقم النزاع الإيراني مع الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية والوكالة الدولية للطاقة، وتتلاحق التكهنات المتضاربة فيما خص الموقفين الروسي والصيني ومدي استعدادهما لدعم إيران أو لمعاقبتها. لكن ما لا يحظي بكبير اهتمام، في المقابل، يتصل بوضع الداخل الإيراني. ذاك أن الأخير يبدو، حسب التقارير الصحفية، غير ملائم بالمرة لخوض معركة من العيار الثقيل، علي النحو الذي يرغب فيه الرئيس محمود أحمدي نجاد. فقد أوردت ''وكالة الصحافة الفرنسية'' تحليلاً معمّقاً عن أحوال الاقتصاد يخالف التوقعات الأكثر تفاؤلاً وثقة التي يبديها الرئيس الحالي ومساعدوه. ذاك أن عائدات النفط الضخمة لن تكون كافية، ما لم ينتعش القطاع الخاص ويوفّر المزيد من فرص العمل، لوقف البطالة بين الشبيبة التي تُعدّ ''شيطان الاقتصاد الإيراني''. وفرصة كهذه هي ما تضاءل احتمالها كثيراً نتيجةً للتصويت الذي قضي بتحويل المشكلة الإيرانية إلي مجلس الأمن. ذاك أن التحول الأخير هذا ضاعف خشية المستثمرين وتردد القائمين أصلاً، فأحدث اهتزازات في السوق لم تسلم من آثارها سائر القطاعات التقليدية للاستثمار المحلي. ففي مجال الإسكان، مثلاً، توقفت عمليات بناء البيوت وشرائها وآثر المتموّلون ''النوم علي أموالهم'' في انتظار أن تتضح الأمور وتنجلي. وهو ما يعاكس الوجهة التي سادت في السنوات القليلة الماضية واتّسمت بانفجار في أنشطة التعمير وشراء الأملاك. كذلك تتجمّع معطيات تفيد أن نقص السيولة بدأت تظهر معالمه السلبية علي القطاعات التي تتاجر بالألومنيوم والورق والمواد الغذائية والتجهيزات الصحية والطبية. وقد لوحظ أن أثرياء إيرانيين كثيرين شرعوا، في الأسابيع الأخيرة، يرسلون تحويلاتهم النقدية إلي مناطق أشد وعداً وإثارةً للاطمئنان. ويري بعض المحللين أن الدولة الإيرانية قد تستطيع، بسيطرتها الواسعة علي الاقتصاد، أن تسدّ بعض ثغرات انكماش الاستثمار، إلا أنها ستعجز حكماً عن رفد السوق بالمال الكافي لتعزيز الثقة بها. وهو أمر سيزداد سوءاً إذا ما فُرضت عقوبات دولية علي إيران مما يتأثّر به جميع قطاعات الاستيراد بلا استثناء. فكيف وقد أبدت الوكالة الدولية للطاقة الاستعداد لاستخدام احتياطيها الاستراتيجي من النفط للتعويض عما قد يتسبب به وقف التصدير الإيراني (7,2 مليون برميل يومياً)، وهذا مع العلم بأن المدير التنفيذي للوكالة، كلود مانديل، كان قدّر أن في الوسع تأمين التعويض هذا لفترة تتجاوز السنة ونصف السنة؟ فإذا تذكّرنا الوعود الشعبوية السخية لأحمدي نجاد، إبان حملته للانتخابات الرئاسية، ب''طرح عائدات النفط علي موائد الفقراء''، أمكننا افتراض تصاعد الغضب الشعبي رداً علي تردٍّ درامي تشهده الأوضاع الاقتصادية للبلاد. وهو ما توقفت عنده صحيفة ''أوبزيرفر'' الأسبوعية البريطانية، فلاحظ أحد كتّابها احتداماً في الصراعات الاجتماعية يرمز إليه إضراب سائقي الباصات في العاصمة طهران. فالسلطات كانت قد رفضت الموافقة علي تأسيسهم نقابة مستقلة بهم وقررت أن مصالحهم إنما يمثلها ''المجلس الإسلامي'' في ''شركة باصات طهران والضواحي''. لكن السائقين أكدوا أن مديري الشركة الرسمية الذين يتهمونهم بسرقة أموالهم هم آخر من يمكنهم أن يمثلوا مصالحهم. وبالفعل أعلنوا إضرابهم أواخر يناير الماضي الذي اعتُبر امتحاناً للرئيس الجديد الذي اشتُهر، بين ما اشتُهر به، بسخاء كلامه في حب الفقراء. وبدوره، لم يتأخر رد أحمدي نجاد الذي أشرف علي الحملة القمعية الأولي منذ الضربة التي كيلت، عام 1999 للصحفيين والطلبة المنشقّين. فقد استدعي مديري الشركة و''المجلس الإسلامي'' عناصر من الميليشيات شبه النظامية، فاعتقلوا ستة من قادة التحرك العمالي ومارسوا الضرب والتعذيب بعمال اضطُرّوا إلي شجب الإضراب وإدانته. بيد أن الأغلبية العمالية التي رفضت الإذعان، تعرّضت عائلات أفرادها للأذية والانتقام. وقد روت لأحد المراسلين مهدية سليمي، البالغة 12 عاماً وابنة أحد قادة التحرّك، أن المسلحين انقضّوا علي منزلهم في ساعات الصباح الأولي بحثاً عن والدها. فعندما قالت لهم زوجته إنها علي غير معرفة بمكانه، ابتدأ الهجوم المسعور. فقد رفسوا، حسب رواية الفتاة، صدر أمّها بأحذيتهم، فيما الأم تعاني مشكلات في قلبها، كما حاولوا رشّ بعض الرذاذ الصناعي في فم أختها التي تبلغ السنتين. ولئن لم يعرف تماماً عدد المعتقلين من العمال، فإن الرقم الأعلي كما تناهي إلي مؤتمر النقابات البريطانية هو 1300 فيما قدّرت الاتحادات النقابية العالمية والسفارة البريطانية في طهران أن ما يتراوح بين 400 و600 شخص لا يزالون في السجون. علي أن تناقضات الجمهورية الإسلامية، حسب الكاتب الإيراني أمير طاهري في مقالة له في ''الشرق الأوسط''، تخترق أعلي دوائر الحكم نفسه. ففضلاً عما بات معروفاً من استياء الرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، يتحدث طاهري عن حدث درامي قد ينفجر في الأشهر القليلة المقبلة. أما المناسبة التي يقصدها فاختيار مجلس جديد للخبراء، وهو الذي يتولي اختيار المرشد الأعلي ذي السلطات غير المحدودة بموجب نظرية ''ولاية الفقيه'' الخمينية. ويتحدث الكاتب المختص في الشأن الإيراني عن صعود جيل جديد من الراديكاليين الذين يشبهون أحمدي نجاد واحتمال احتلاله أغلبية مقاعد المجلس. ولا يستبعد، في حال كهذه، أن تسعي الاكثرية الجديدة إلي قضم منصب المرشد الأعلي بعدما قُضم موقع رئاسة الجمهورية. وفي هذا الصدد يشار إلي أن الرئيس الحالي لا يشعر بأي دَين للمرشد الحالي علي خامنئي عليه. ذاك أن الأخير أيد في الدورة الأولي للانتخابات الرئاسية المرشح قاليباف، قبل أن ينتقل في الدورة الثانية إلي تأييد أحمدي نجاد. كذلك تراه لا يخفي رغبته في تهميش المرشد، خصوصاً أن مهدويته القصوي تجعل تركيزه علي المهدي طاغياً يتعدي خامنئي. ويشير طاهري وآخرون تناولوا إيران- أحمدي نجاد إلي بعض الآراء المتطرفة داخل مجموعات الراديكاليين الشبان. فهناك من يصل به التطرف حدّ نقد آية الله الخميني حيث يؤخذ عليه تغليبه السياسة علي الدين البحت. وثمة من يدعو إلي التخلص من ''ولاية الفقيه جملة'' وتفصيلاً لمصلحة الاتصال المباشر، من دون وسطاء، بالمهدي. لكن وجهة النظر الأكثر ترجيحاً هي الإتيان بمرشد يكون أكثر انسجاماً مع خط الرئيس الحالي من ناحيتين علي الأقل: تطابقه الأكبر مع الاجتهادات الراديكالية في الدين، واستعداده للتخلي عن بعض الصلاحيات السياسية المباشرة التي يتمتع بها المرشد اليوم. ويسمّي طاهري آية الله محمد تقي مصباح يزدي الذي ''يمكن أن يكون المرشح الرئيسي لمنصب المرشد الأعلي إذا ما أُرغم خامنئي علي التخلي عنه''. ومن المعروف عن يزدي أنه قضي فترات طويلة في السجن في عهد الشاه، وأنه متمكّن من أمور الدين والفقه والفلسفة الشيعية، إلا أنه بالغ التشدد في القضايا الاجتماعية والثقافية، ''ولديه شعور بالازدراء العميق للحضارة العصرية التي تقودها الديمقراطيات الغربية''. وكائناً ما كان الأمر، تكرر إيران الخطأ الفادح نفسه الذي سبق أن ارتكبته هذه الدولة أو تلك من دول منطقتنا، حين طرحت علي نفسها ما لا تقوي عليه من المهام. فالذي تكون جبهته الداخلية علي هذه الدرجة من التشقق (وهذا من دون أن نتحدث عن أوضاع الأقليات القومية أو الدينية أو المذهبية، كالعرب والأكراد والأذريين...) لا يقدم علي مواجهات من النوع الذي تنخرط طهران فيه. وهو ما لا يعني، بطبيعة الحال، أننا سنشهد في غد قريب تداعي نظام آيات الله مثل ثمرة حان قطافها. فالأمر، دائماً، أصعب وأعقد كما يلزم لاختمار التناقضات مدي زمني أطول. بيد أن الشيئين المؤكدين أن الداخل الإيراني ليس، إطلاقاً، علي ما يرام، وأن التدخل العسكري، أمريكياً كان أم غير أمريكي، قابل لأن يطيل عمره أكثر من قابليته لتقصيره.