أكدت معظم الدراسات التي أجرتها مراكز الأبحاث الأمريكية أنه لا يمكن تجاوز التيار الديني وجماعاته عند البدء في عملية دمقرطة البلدان العربية فقد أوضحت "إلين ليبسون"، رئيسة مركز "ستيمسون" وهو مؤسسة متخصصة في بحوث ودراسات الأمن الدولي بواشنطن " إن من الصعب جداً أن نتخيل تطور العملية السياسية خلال العشرين عاماً المقبلة، دون انخراط الإسلاميين فيها. فقد حصل الإسلاميون علي شرعية سياسية في مجتمعاتهم. ولا سبيل لمحوهم بين ليلة وضحاها، بتأييدنا للأنشطة السياسية التي تقوم بها الجماعات والفئات الصغيرة من العلمانيين الحداثيين. وفي سبيل نجاح العملية السياسية خلال الفترة المشار إليها أعلاه، فإنه لابد من تخيل فضاء سياسي، يضم الإسلاميين والعلمانيين علي حد سواء". ورغم كل هذه الدراسات لم يتوقع أكثر المحللين الأمريكيين تشاؤما الفوز الكبير الذي حققته حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أجريت يوم 25 يناير ونتج عنها فوز الحركة ب 76 مقعدا، مقابل 43 مقعدا لحركة فتح من إجمالي عدد مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني الذي يبلغ 132مقعداً، وذهبت المقاعد المتبقية ويبلغ عددها 13 مقعدا لأحزاب فلسطينية صغيرة. نتائج هذه الدراسات أكدتها نتائج الحراك السياسي والانتخابات التي جرت خلال العامين الماضيين سواء في العراق أو لبنان أو مصر وحتي الانتخابات البلدية في السعودية قد أعطت صورة أكثر واقعية عن الهرم السياسي في تلك البلدان، وأن تلك الصورة تبرز أن القوي الدينية مؤثرة ولها مصداقية لدي مجموعات كبيرة من المواطنين، وذلك بصياغات مختلفة بطبيعة الحال، والأمثلة علي ذلك تكمن في الائتلاف الشيعي في العراق والإخوان المسلمين في مصر والإسلاميين في السعودية وحزب الله في لبنان وحركة حماس في الأراضي الفلسطينية. لماذا يختار الناخب العربي عندما تتاح له فرصة اختيار حقيقية (في الجزائر/مصر/العراق/فلسطين) التيار الديني؟ في تقديري أن سر هذا الاختيار يرجع أولاً لكونه صورة من صور التصويت الاحتجاجي علي الواقع وثانياً إلي كون أن هذا التيار يحمل ويرفع مرجعية مقدسة ويلعب دور المحامي الذي يطالب بكل الحقوق وهو ما يرضي المجني عليه بغض النظر عن كون هذه القضية تحتاج الي محام يطالب بكل الحقوق أم الي مفاوض يطالب بالممكن والمتاح علي ضوء مقدرات الواقع. بجانب هذه الأسباب فسر المحللون سواء اجانب أو عرباً صعود حركة "حماس" إلي مظاهر الفساد والتهالك التي اعترت حركة "فتح"، بصفتها الحركة الوطنية الرائدة، التي سادت الساحة السياسية الفلسطينية منذ منتصف عقد الستينيات ويؤكد ذلك تقرير النائب العام الفلسطيني الذي كشف فيه عن سرقة 700 مليون دولار، تمّ نهبها من الخزينة العامة، في السنوات القليلة الماضية. كما كشف عن توقيف 25 متهماً، وهروب عشرة من المتهمين الكبار، خارج البلاد. في حين قدمت "حماس" نفسها للجماهير الفلسطينية علي أنها حركة أكثر تنظيماً ونزاهة واستقامة وديناميكية، فضلاً عن بنائها لشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية، التي ساعدت علي نحو أو آخر، في تخفيف الضغوط ومصاعب الحياة التي عاناها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، يضاف الي ذلك أن عائد ما يسمي ب "مفاوضات السلام" التي جري التفاوض حولها بين الطرفين تحت رعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991 لم يكن مقنعاً علي مستوي الحياة اليومية، ولم تحقق الآمال الوطنية التي علقت عليها. بل وعلي النقيض تماماً، فقد تواصل زحف الاحتلال الإسرائيلي وتوغلاته إلي عمق الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، دون انقطاع أو توقف. ففي العام 1991 الذي انعقد فيه مؤتمر مدريد، كان هناك أقل من مائة ألف مستوطن يهودي في أراضي الضفة الغربية. أما اليوم فقد بلغ عدد المستوطنين هناك، نحو 260 ألفاً، إلي جانب حوالي 200 ألف آخرين في مدينة القدسالشرقية. هل ستتغير حركة حماس؟ بمعني هل تنتقل حماس من لعب دور المحامي الي لعب دور المفاوض؟ من المطالبة بالمطلق الي محاولة الحصول علي الممكن والبناء عليه. هل سوف تتحول حماس من المقاومة العنيفة الي صور أخري من المقاومة.. مقاومة هدفها الأول هو البناء وخصوصاً بناء المواطن الفلسطيني أيماناً بأن أولي خطوات بناء الوطن هو بناء المواطن. هل ستتبني حماس التسوية السياسية تحت معيار مقدرات الواقع؟أم ستظل تتبني نظرية الحق التاريخي علي الرغم من أن الحق التاريخي في زمنه كان مقدرات واقع. هناك تصريحات عديدة لقادة حماس تبرز بشكل ضمني أن الحركة تدرك تماما بأنه ليس هناك بديل عن الحل السلمي للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي علي الرغم من تمسكها بخيار المقاومة. فمحمود الزهار أعرب عن استعداد الحركة للدخول في هدنة غير محدودة مع إسرائيل. ويري بعض المحللين وأتفق معهم أن حماس ستبدأ في تعديل مواقفها بشكل تدريجي حتي لا تخسر شعبيتها خاصة وأن لها قاعدة شعبية تؤيد خطابها السياسي الراديكالي، ومن ثم تبدأ بالتراجع عن بند تدمير دولة إسرائيل في ميثاقها أو تجاهله علي الأقل مثلما فعلت حركة فتح مطلع التسعينيات. مع ضرورة أن يقابل هذا التحول تغير ايجابي مضطرد من الطرف الأخر سواء كان من الجانب الأمريكي أو الاسرائيلي ينعكس ايجاباً علي المواطن الفلسطيني.