تكلّمنا في المقال السابق عن: مفهوم خزّانات التفكير؛ وأهميّة خزّانات التفكير للحركات الإصلاحية ونتكلم في هذه الحلقة عن أهم وظائف خزّانات التفكير؛ وأهم النماذج العالمية لها خاصة في الولاياتالمتحدة (ضربنا المثل بخمس مؤسسات فقط). ثالثا: أهم وظائف خزّانات التفكير تتعدد وظائف خزّانات التفكير، ومن هذه الوظائف تستمد أهميتها لأي حركة إصلاحية تستهدف تغيير الواقع أو إصلاحه. أولى هذه الوظائف: هي توليد الأفكار والخيارات المبتكرة والحلول الإبداعية حيث تقوم خزّانات التفكير بدراسات معمّقة للقضايا: فتدرس تاريخها وخلفياتها وتداعياتها من خلال قراءات وتحليلات عميقة لتقديم صورة متكاملة عن القضية أو الظاهرة موضع الدراسة بما فيها توصيات لما ينبغي عمله، والبدائل الممكنة والحلول المقترحة، وهذه الوظيفة هي ما يمكن أن نطلق عليه "حضّانة التّصورات والرؤى والأفكار الجديدة". ثانيها: هي تكوين باحثين متخصصين على درجة عالية من الكفاءة من خلال تدريبهم في تلك الخزّانات وتخصيص مجموعة باحثين لكل قضية من القضايا؛ وبذلك تبني الحركة كوادرها البحثية المتخصصة ممن ينشرون في الصحف السيارة والدوريات العلمية ومواقع الإنترنت الذين يعملون على نشر رؤية الحركة الإصلاحية وتصورتها للحلول المجتمعية، ويبنون قناعات ذاتية عند عامة الناس بحلول الحركة وجدارتها، بل ويمكن أن تشكّل تلك الكتابات في مجموعها رأيًا عامًا مؤيدًا للحركة ومناصرًا لقضاياها، وهذه الوظيفة هي ما يمكن أن نطلق عليه وظيفة: "تخريج أجيال جديدة من الباحثين والكتّاب المنتمين للحركة الإصلاحية". ثالثها: هي المشاركة في حلقات التفكير الجماعي وندوات العصف الذهني وعمل البحوث المسحية وورش العمل التي يحضرها متخذو القرارات والممارسون للعمل العام، حيث يتم فيها مناقشة قضية محددة يركزون عليها؛ فيتبادلون حولها الرؤى والأفكار ومناهج التناول: الممارس للعمل العام بحكم احتكاكه اليومي وخبراته العملية؛ والباحث بحكم تفرغه للبحث والدراسات وخبراته العلمية، كما تقوم خزّانات التفكير بكسر الحواجز بين العمل البحثي النظري وبين العمل السياسي التطبيقي للمشاركين في العمل العام، ويكون وجود خزّانات التفكير كضابط لخط سير الأفكار والرؤى والخروج بخلاصات عامة. وإذا كان ما سبق هي الوظائف الأساسية لخزّانات التفكير فيمكن القول أنها بمساعدة مركز دراسات الحركة الإصلاحية - لو وجد كيان بهذا المسمى- يمكن أن تفيد متخذ القرار بتحقيق عدد من الأهداف الفرعية مثل: 1- توفير قاعدة معلومات وبيانات وتصورات ورؤى ووضعها في خدمة الباحثين ومتخذي القرار. (وهنا يتم التركيز على البحوث المسحيّة ودراسات الرأي العام واستطلاع وقياس الرأي داخل الحركة). 2- إعداد الدراسات التي تتناول أهم القضايا المعاصرة بالأساليب المنهجية والأسس الموضوعية. (وهنا يتم التركيز على البحوث المستقبلية والدراسات الإستراتيجية). 3- دراسة القضايا والظواهر التي تهم الحركة الإصلاحية ومحيطها الإقليمي والدولي. (وهنا يتم التركيز على دراسات القضايا المتخصصة ودراسات المناطق لتكوين كادر مشابه لما يعرف في العلوم الشرعية بمجتهد المسألة وهو هنا فريق المتخصصين في مختلف القضايا محل الاحتياج). 4- تقديم الدراسات المستقبلية المعتمدة على معطيات الواقع والأصول العلميّة من أجل اختيار أصلح البدائل لمواجهة الحدث قبل وقوعه وذلك تجنبًا لإصدار القرارات التي تُتخذ تحت ضغط الواقع ومزاجية الارتجال. (وهنا يتم التركيز على بناء السيناريوهات المستقبلية والدراسات الاستشرافية التي تستند إلى متطلبات الواقع ومقتضياته). 5- القيام بإعداد تقديرات الموقف وتقريرات الحالة التي توضع تحت تصرف جهات اتخاذ القرار للبناء قصدًا عليها. (وهنا يتم التركيز على: فن صياغة الخلاصات المركزة والرؤى الكلية للمواقف والاتجاهات؛ وحصر البدائل والاحتمالات من حيث مدى تحققها ونسب هذا التحقق؛ وذلك بالأدوات والأساليب والمناهج العلمية المعتمدة داخل مختلف الحقول). رابعا: نماذج من أهم خزانات التفكير في الولاياتالمتحدة تتميز الولاياتالمتحدةالأمريكية على بقية دول العالم –حتى الغربي منها- بالعدد الكبير لخزّانات التفكير فيها حيث يوجد بها حاليًا مئات من خزّانات التفكير وآلاف من مراكز البحوث والدراسات. ونحاول هنا أن نرصد عددا محدودًا من أهم خزّانات التفكير في الولاياتالمتحدة ونبرز دورها المهم في صنع السياسات والإستراتيجيات الأمريكية داخل أمريكا نفسها وحول العالم. 1- مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي Carnegie Endowment for International Peace أسسها ديل كارنيجي عام 1910م، وبدأ أعماله في البحث في القوانين الدولية ودراسة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للحروب. حاليًا مؤسسة كارنيجي متوجهة كليا نحو السياسة الخارجية ولديها برامج بحثية كثيرة تشمل قارات العالم. أحد برامجها المتميزة اسمه "دور الولاياتالمتحدة في العالم". من إصداراتها الدورية مجلة السياسة الخارجية ونشرة الإصلاح العربي، وكلتاهما تطبع مترجمة للغة العربية في الكويت. 2- معهد بروكنجز Brookings Institute أسسه روبرت بروكنجز عام 1916م وكان تركيز أبحاثه في البداية حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية المحلية. وبعد الحرب العالمية الثانية أضيف إلى أجندته الدراسات الدولية. ومنذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م ركز المعهد أبحاثه على العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي. وحول أهمية هذا المركز يمكن القول أن: - الأفكار التي أصدرها هذا المعهد هي التي ساهمت في التعبئة العامة خلال الحرب العالمية الأولى والثانية. - ساهم المركز في تطوير خطة مارشال المعروفة بعد الحرب العالمية الثانية. - كان المعهد وراء فكرة العقوبات التي تبنتها الولاياتالمتحدة ومجلس الأمن ضد ما يسمى بالدول المارقة. - كان المعهد وراء تأسيس مجلس الأمن القومي في الولاياتالمتحدة. - كان المعهد وراء التزام الولاياتالمتحدة بتقديم معونات للدول الفقيرة. - صاغ المعهد السياسة الأمريكية تجاه روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ويمثل المركز مصداقية كبيرة لدى أصحاب القرار التشريعي في الولاياتالمتحدة؛ ففي دراسة على أعضاء الكونجرس، رأى (90%) منهم أن هذا المعهد هو الأكثر مصداقية بين باقي مراكز الدراسات والتفكير الأمريكية الأخرى. كثير من أعضاء الإدارات الحكومية مثل الخارجية ومجلس الأمن القومي كانوا أعضاء باحثين في هذا المعهد، ومنهم مارتن إنديك الذي شغل مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط. 3- مؤسسة راند Corporation RAND تأسست عام 1948م. في حقل السياسة الخارجية كان اهتمامها في البداية منصبًا على الاتحاد السوفييتي، ولكن بعد ذلك وسعت دائرة اهتمامها لتشمل مناطق أخرى من العالم. نصف عملها يتركز حول الدفاع والأمن القومي والنصف الآخر حول السياسات في قضايا محلية في الحقول الاجتماعية والاقتصادية. وراند مؤسسة بحثية، تمتلك أكبر ميزانية بحثية، تزيد على المائة مليون دولار أمريكي سنويا. وهي مشروع انطلق من حاجة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أن ينشأ مركز دراسات يعمل على خدمة التوجهات الدفاعية الأمريكية. ويعمل في استشارات لبعض مشروعات هذه المؤسسة مستشار الأمن القومي السابق سكو كرفت، وثلاثة من وزراء الدفاع الأمريكيين السابقين، وهم هارولد براون، فرانك كارلوتشي، ووليام بيري. وتجسد راند نموذجًا واضحًا ومباشرًا في البحوث التعاقدية أو (مقاولي الحكومات) مع وزارة الدفاع الأمريكية. 4- أميريكان إنتربرايز إنستيتيوت American Enterprise Institute for Public Policy Research من أشهر خزّانات التفكير في الولاياتالمتحدة وهو أشد معاقل المحافظين الجدد شهرة أيضا؛ حيث يفخر التيار اليميني بكونه صاحب أكبر مخزون تراثي وفكري أمريكي؛ حيث يحوي الكثير من الأرشفة والدراسات والتقارير المهمة والنادرة؛ ولا يتردد المسئولون المهمون في الإدارات الأمريكية المتتالية من زيارة هذا المعهد عندما يكون في جعبتهم ما ينوون التصريح به ويعتقدون بأهميته في الحياة الأمريكية. وتكمن قوة المركز بالإضافة لمخزونه الفكري في ميزانيته القوية المستمرة دون إخفاق, حيث وصلت في عام 2000م إلى 17 مليون دولار؛ وهذا الرقم ضخم مقارنة بميزانيات المراكز والمعاهد الأخرى. ومن عناصر القوة الأخرى أنه يضم 50 باحثا متفرغا بالإضافة لمائة باحث مشارك (غير متفرغ). وأخيرًا يشكل تاريخ المعهد الطويل أحد أبرز عناصر القوة، حيث تأسس عام 1943م بالعاصمة واشنطن؛ لهذا فهو من أكثر المعاهد التي قدم باحثوها شهادات أمام لجان الكونغرس. ومعهد إنتربرايز لا يخفي انتماءه الشديد لإسرائيل -أو بمعنى أكثر لباقة للمحافظين الجدد؛ فهناك 14 عضوا قدموا إجازات مفتوحة للعمل في إدارة بوش الابن المتميزة بتغلغل المحافظين الجدد فيها. من الأعضاء البارزين للمعهد الذي يترأسه كريستوفر ديموث (وينوبه ديفيد جيرسون) أسماء مشهورة بانتمائها لهذا الخط المحافظ اليميني؛ ومن تلك الأسماء البروفسور إيليوت كوهن؛ وجيرترود هيملفارب وإيرفينج كريستول وصموئيل هنتنجتون ومايكل ليدين ولين تشيني ونيوت جينجريتش؛ وكذلك ريتشارد بيرل وجين كيركباتريك. وعندما كان الرئيس الأمريكي جورج بوش في استضافة معهد أميريكان إنتربرايز في مقره بواشنطن، أثنى على هذا المركز وعبر عن امتنانه لدور هذا المركز في خدمة القرار الأمريكي، وأضاف أن هذا المعهد يضم أفضل العقول الأمريكية، مما جعل إدارته تستعين به وينتدب أكثر من 20 شخصية من هذه العقول المفكرة إلى مناصب في إدارته. وطبعا الرئيس بوش لم يذكر أن هؤلاء الذين انتدبهم من هذا المركز على وجه الخصوص هم من أعتى دعاة اليمين المتطرف، والذين صاغوا له معظم قرارات السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية في الإدارة الأمريكية خلال السنوات الماضية. وجدير بالذكر أن الشاغل الثالث والأربعون لسدة البيت الأبيض قد أحاط نفسه، فيما يتصل بالسياسة الخارجية حصرًا بمجموعة من العاملين السابقين في"خزّانات التفكير" هم ممن اشتهروا باسم "المحافظين الجدد" والذين هم أعضاء في الواقع في مدرسة فكرية لا تعبر عن مصالح اقتصادية خاصة، بقدر ما تجمعها وحدة الخيار الأيديولوجي ووحدة تصورها لدور أمريكا في العالم في طور صعودها "الإمبراطوري" منذ نهاية الحرب الباردة وصيرورتها القوة العظمى الوحيدة في العالم. 5- مؤسسة هيريتيج (التراث) Heritage Foundation تأسست عام 1973م؛ وهي تعرّف نفسها على أنها منظمة للأبحاث والتعليم؛ رسالتها صياغة ودعم سياسات عامة محافظة قائمة على مبادئ الأعمال الحرة؛ والحكومة المحدودة السلطات؛ والحريات الفردية؛ والقيم الأمريكية التقليدية؛ والدفاع القومي القوي؛ وتنتج المؤسسة أبحاثا وتولد حلولا تتوافق مع معتقداتها وتسوقها لدى الكونجرس؛ والسلطة التنفيذية ووسائل الإعلام وغيرها من الجهات؛ يحكم المؤسسة مجلس أمناء مؤلف من 19 عضوًا يشرف على 185 موظفا؛ بما فيهم 75 خبيرًا في مجموعة واسعة من القضايا السياسية المحلية والدولية. تدعو المؤسسة للعديد من المشاريع والقضايا التي يتبنّاها المحافظون الجدد مثل مشروع الدفاع الصاروخي الأمريكي والدفاع المستديم عن المشروع. بالإضافة إلى تبني المؤسسة مبادرة المشاركة من أجل الديمقراطية والتنمية أو مبادرة الشراكة الأمريكية في الشرق الأوسط؛ وهي المبادرة التي تتبنى أهداف المحافظين الجدد بوضوح. هذه المراكز الخمسة وغيرها لديها مجموعتان من الأقسام؛ فالمجموعة الأولى من الأقسام تبحث في الشؤون الداخلية للبلاد في الصحة والتعليم والاقتصاد وما أشبه، والمجموعة الأخرى من الأقسام تبحث في الشؤون الخارجية. ونلاحظ أن اهتمامها هذا بالشؤون الخارجية لم يجعلها تقتصر على أبحاث في تطوير الأسلحة وتقنياتها ولم تحصر اهتمامها بالحقل العسكري، بل إن اهتمامها بالشؤون الخارجية جعلها تنشئ أقسامًا غير عسكرية فتجد قسمًا يبحث في علوم النفس والاجتماع وآخر في الدين وثالث في الآداب والفنون وهكذا. ملحوظة: استفدنا في بناء هذه الدراسة من مصادر عدة أهمها: مواقع تلك المؤسسات وقوانين عملها ونظمها الأساسية؛ ومقالة مهمة للكاتب سيد حسن الحسن بعنوان: "نحو مركز دراسات لمستقبل النهوض الشيعي" وغيرها كثير من الدراسات السابقة والأبحاث والمقالات.