ربما تكون طهران وموسكو، هما العاصمتان الوحيدتان اللتان أظهرتا تأييدا بشكل مباشر أو غير مباشر لحركة حماس في أعقاب فوزها الكبير في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، وباستثناء الإشارات والتصريحات والتلميحات التي صدرت من العاصمتين المذكورتين، فإنه يمكننا القول إن حركة حماس تتعرض الآن عربيا ودوليا إلي كم هائل وخانق من الضغوط التي تصل أحيانا إلي درجة الاستفزاز والتلويح بالتهديد، من أجل دفعها في اتجاه مطالبة الجميع لها بالتخلي عن الثوابت والحقوق الفلسطينية، بما في ذلك حقها في مشروعية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وإذا أمعنا النظر في المشهد السياسي الفلسطيني الحالي، فإن تفاصيله المتداخلة قد تتبدي لنا لأول وهلة في وجود رئيس منتخب لمنظمة التحرير الفلسطينية وللسلطة، وهو الرئيس محمود عباس "أبو مازن" ويذكر أنه أتي إلي سدة الحكم من خلال انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، إلا أن العقيدة السياسية للرئيس أبو مازن تختلف بشكل جوهري عن العقيدة السياسية لهؤلاء الناجحين من حماس في الانتخابات التشريعية بأغلبية كبيرة، تتيح لهم في الواقع حق تشكيل حكومة جديدة، فإذا كانت قناعات الرئيس تدور حول وجود إمكانية للوصول في يوم ما إلي سلام عادل يضمن ولو أغلب الحقوق والثوابت الفلسطينية، وذلك عن طريق التفاوض مع إسرائيل، إلا أن رؤية الأغلبية التي فازت من حركة حماس، والتي ستشكل بالتالي الأغلبية في المجلس التشريعي القادم، وكذلك رؤية الحكومة التي سوف تقوم الحركة بتشكيلها منفردة أو بائتلاف مع آخرين، إنما تختلف جوهريا عن سابقتها، الأمر الذي توقع معه الكثيرون أن يظهر قريبا تناقضا ربما يكون فريدا، بين رئيس للسلطة أو الدولة ولو كانت تحت الاحتلال من ناحية، وبين أعضاء حكومته الجديدة والمجلس التشريعي من ذوي الرؤي المخالفة تماما لرؤاه وعقيدته السياسية في الناحية الأخري. لذلك تباينت الآراء والتحليلات التي حاولت استشراف مستقبل الموقف أو الوضع الفلسطيني بتعقيباته وتبياناته الحالية، فالأغلبية تراهن علي فشل المشروع أو البرنامج الذي نجحت حماس علي أساسه في الانتخابات، ومن ثم استحالة إمكانية تمسك الحركة بثوابتها الوطنية وأجندتها السياسية في تعاملها القادم مع قضية التحرير أو الاحتلال، الأمر سوف يقضي لا محالة لبروز تناقض جلي في مواقف كل من مؤسسة الرئاسة والحكومة والمجلس التشريعي، وساعتها لن تتمكن حماس من الإفلات من ذلك المأزق إلا بالرضوخ لضغوط مؤسسة الرئاسة نفسها، والتي تؤججها الضغوط الدولية والعربية لدفع حماس للتخلي عن برنامجها، فتعلن نبذها للعنف أو للإرهاب علي حد زعمهم مقترنا باعترافها أيضا بإسرائيل في نفس الوقت! أما الفريق الآخر، وعلي الرغم من إدراكه العميق لصعوبة الموقف وتشابكاته، وتحدياته، إلا أنه يري وجود ثمة هامش سياسي يمكن ل حماس أن تستثمره في مجال جني ثمار نتائج الانتخابات، وبالتالي تعظيم فرص الضغط المتتابع علي المحتل الإسرائيلي، الذي سيجد نفسه في وقت غير بعيد أراد أو لم يرد مدفوعا لقبول فكرة أو مقولة "كامل تراب غزة والضفة الغربية مقابل السلام". وإذا كنا نعلم أنه ليس من السهولة التوقع أو التنبؤ المنضبط لما ستؤول إليه الأحوال في هذا المجال، إلا أن رصد وتحديد ردود الأفعال مع وجود قدر ولو يسير من قوة الملاحظة لدوافعها ومراميها، قد يؤديان بنا إلي الاجتهاد في هذا المجال، ولهذا فإننا سنستعرض في عجالة بعضا من ذلك الذي نعتقد في أهميته لهذا الحديث أو تلك المحاولة. ولعل استعراض ما صدر عن قيادات حركة حماس بعد الفوز، يوفر لنا إطارا عاما للذي يفكرون فيه بصوت عال، وإن كان لنا التعليق عن الذي صدر منهم إلي الآن، فيكفي القول بأن الملمح الأساسي في كل ذلك، إنما يعكس قدرة عالية علي قراءة الواقع الفلسطيني، وسعة أفق لتدبر حقائقه ومعضلاته ولنا أن نتلمس ذلك بوضوح فيما يلي: 1 إقرار قادة الحركة بأهمية العمل المشترك بين جميع الفصائل الفلسطينية دون استثناء، وسعيهم المتواصل لإجراء مشاورات جادة مع الرئيس أبو مازن وحركة فتح والفصائل والقوي السياسية الأخري. 2 مطالبة المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية تحديدا باحترام القواعد الديمقراطية، ومن ثم الإقرار بحقوقهم السياسية التي اكتسبوها بعد فوزهم في انتخابات حرة وشفافة. 3 الاعتقاد بأن انتصارهم شكل لطمة لعدوهم وللإدارة الأمريكية، وتصورهم بأن ذلك الانتصار، سيدفع إسرائيل إلي تقديم تنازلات جديدة للفلسطينيين. 4 الإصرار علي المشاركة بالالتحاق بمؤسسات السلطة الفلسطينية لمحاربة الفساد الضارب فيها. 5 موافقة الحركة مرحليا علي إقامة الدولة الفلسطينية علي أي شبر من الأراضي الفلسطينية، مع عدم التنازل عن المطالبة بكل فلسطين في المستقبل (فلسطين التاريخية). 6 الدعوة إلي عدم الاصطدام بمؤسسة الرئاسة، والسعي لتعزيز المشاركة معها. 7 الإعلان عن انفتاح الحركة علي العالم وعلي الأمة العربية والإسلامية. 8 الإقرار بأن الحركة سوف تتعامل بواقعية مع جميع الاتفاقيات التي أبرمتها السلطة بما فيها اتفاقية "أوسلو". 9 الحرص علي الحوار مع الجميع خاصة أمريكا وأوروبا، بشرط احترامهم للحركة وتجنب فرض إملاءاتهم عليها. 10 الموافقة علي توحيد السلاح الفلسطيني، وتأسيس جيش يدافع عن حق الفلسطينيين. وبين العرض الذي قدمته الحركة بالموافقة علي التهدئة (هدنة طويلة)، بحيث تؤدي إلي تعايش سلمي طويل الأمد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبين رفض إسرائيل لذلك العرض، جاءت التصريحات المثيرة للرئيس الروسي "بوتين" أثناء لقائه السنوي مع الصحفيين، والتي أعلن فيها أن فوز حماس يعد ضربة قوية للجهود الأمريكية في الشرق الأوسط، من أجل التوصل إلي تسوية سلمية بين إسرائيل والفلسطينيين، كما شدد فيها علي خطأ رفض تقديم المعونات والمساعدات الدولية في جميع الأحوال، علي الرغم من فوز حماس أيضا، كما جاء علي لسان وزير خارجيته "لافروف" قوله: إن روسيا مستعدة للعمل مع القيادة الجديدة حتي لو تشكلت بكاملها من ممثلين لحركة حماس. وإن كان يذكر في هذا الإطار أيضا دعوة الرئيس الروسي إلي حماس بالتخلي عن التصريحات المتشددة والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وتحسين علاقاتها مع الأسرة الدولية! في هذا السياق المضطرب، منحت "الرباعية الدولية" حركة حماس نحو ثلاثة أشهر ل "توفيق أوضاعها" بحيث تبادر الحركة للإعلان عن نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل، وإلا فإن إمدادات المساعدات الدولية والمعونات سوف تتوقف! ولم يكد يمضي وقت طويل، إلا وكان رد الحركة سريعا، حيث رفضت حماس دعوة "اللجنة الرباعية" للحركة بالإعلان عن نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل في مقابل استمرار المعونات والمساعدات الدولية. بقي أن نقول لكل المترقبين لتراجع حركة "حماس"، ولكل المنتظرين لسرعة هرولة قادتها إلي دوائر الضوء ومراسم الاستقبالات وعدسات التصوير ومواقع السلطة و"الأبهة" ورغد العيش في المنتجعات، والسير في المواكب والتشريفات، أن نقول لكل هؤلاء لا تنتظروا ولا تعولوا علي ذلك كثيرا، إذ إن بمقدور حماس الآن أن تضع يدها بيد الرئيس الشرعي محمود عباس، وتوكل إليه حق المفاوضة باسمه واسمها واسم فلسطين، وهو قادر كما يقول الكاتب الأستاذ فيصل أو خضرا (الأهرام 29/1/2006) علي أن ينتزع من المجتمع الدولي ومن إسرائيل ما عجز عن انتزاعه في السابق، فهو اليوم رئيس علي أكثرية تملكها حماس، وحماس منظمة رافضة للتفاوض وأنصاف الحلول، ولذا فإن كلمته ستكون مسموعة في الغرب والشرق، وسوف يكون بمقدوره أن يلوح للغرب بالاستقالة، مما يعني أن يترك الحكم ل حماس، وهي تضم الأكثرية الشعبية الشرعية، وعندئذ سوف تكون شروط حماس أضعاف ما يرضي به الفلسطينيون اليوم، ساعتها سوف يجد العالم وإسرائيل أنهما أمام خيارين لا ثالث لهما، أما التفاوض مع الرئيس الفلسطيني الذي يمكنه أن يحمي الحد الأقصي من تنازلات حماس، أو العودة إلي نقطة الصفر، وهي نقطة معروفة ل حماس وللغرب ولإسرائيل كذلك، وهي تحرير فلسطين من النهر إلي البحر.