لنتوقف نحن عن الإضرار بالإسلام أولا، قبل أن نتظاهر ضد الآخرين ليفعلوا ذلك، فقد كانت لمفكرنا الكبير عباس محمود العقاد عبارة لاتنسي يقول فيها أن المصريين يغضبون "أو يهبون" عندما يتم المساس بثلاثة أشياء تمثل قيما عليا بالنسبة لهم " الدين والعرض وحد الأرض"، وبالتالي كان من المتوقع أن يحدث ماحدث عندما تواترت الأنباء الخاصة بنشر الصور المسيئة للرسول صلي الله علية وسلم في صحيفة يلاندز بوستن الدانماركية. وبالتأكيد فإنه من حق كل مسلم أن يغضب تجاه مايعتبره إهانة لدينه، خاصة وأن الدين الإسلامي يمنع المساس بأي من أنبياء الله الذين يؤمن بهم المسلمون جميعا، ويوجد بالفعل في دولة مثل مصر التزام صارم بتلك المسألة، التي تنسحب علي الصحابة كلهم تقريبا، علي النحو الذي أفرز مشكلة فيلم الرسالة ورواية أولاد حارتنا، بعد أن كانت بوادر نقاش عقلاني قد بدأ بالكاد يتسع حولهما. لكن المسألة برمتها وصلت إلي مستويات تتطلب بعض النقاش، سعيا وراء بعض التعقل الذي اتسمت به الثقافة المصرية علي الأقل، بعيدا عمن يتظاهرون في شوارع دول أخري حاملين شعارات " الموت للدانمارك"، أو من حولوها إلي " هوجة" يتذكرون من خلالها أيام الغزوات القديمة، أو من بدأوا يمارسون دعوات المقاطعة لشعب ربما لم يقابلوا يوما أحد أفراده، ناهيك عمن يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور، رغم أنهم _ حسب ماذكرته الجريدة الأردنية التي أعادت نشر الرسومات _ لم يروا أصلا مانشرته الصحيفة الدانماركية، وتم الاعتماد علي وصف وتفسير قادة الرأي العظام الذين وجدوها فرصة أخري لاستهداف الفسطاط الإسكندنافي ومن يناصره في المعسكر الغربي، لعل ذلك يثبت أن أسامة بن لادن كان محقا، أو يدفع بشبان جدد إلي الميدان. إن الغضب تجاه مثل هذه الأمور مفهوم تماما، فلايمكن قبول مثل تلك الرسومات بعقل بارد، حتي لو كان من قام برسمها يعتقد أنها نوع من حرية التعبير، وأنه لم يقصد الإهانة، لكن الطريقة التي يتم التعبير بها عن الغضب تتطلب التوقف طويلا عنها، فهي تشير إلي وجود مشكلة حقيقية فيمن يسيطرون علي الشارع الإسلامي في الوقت الحالي، وفيمن يديرون علاقات الحضارة الإسلامية بالثقافات الأخري، وربما لاتعبر أيضا عن الإسلام أو عن الرسول عليه السلام ذاته، فقد تعرض في حياته لإساءات مباشرة، ولم تخالجه كبشر مشاعر انتقامية، بل دعا لمن أساءوا إليه بالهداية فهم قوم لايعلمون، إلا أننا لانفعل ذلك، بل نحمل الرماح والسيوف ونحرق الأعلام، ولانريد مجرد سماع الآخر سواء كان الأمر يتعلق بتفسير أو اعتذار. لقد قامت الصحيفة الدانماركية بالاعتذار علنا عما بدر من محررها الثقافي في نص أرسل إلي الجميع ولم ينشره أحد، ثم قامت الدولة الدانماركية بالاعتذار عما بدر من صحيفتها بعد أن تيقنت أن المسألة أكبر مما كانت تعتقد، وأنها وصلت إلي تهديد المصالح الاقتصادية للدانمارك، وقامت أطراف مختلفة من الدانماركيين بكل مايمكن القيام به من مقابلات للمشايخ ونشر في الإعلام وإبداء الرغبة في التجاوز، والتأكيد علي أن مثل تلك الأمور حدثت مع "المسيح" أيضا، وأنها تنتمي للكيفية التي يفهمون بها حرية التعبير، وليس أكثر، لكن أحدا لم يهتم بذلك، فالمهم هو " الخطيئة الأولي" التي ارتكبت، والتي لابد في مواجهتها من سحل أبناء الدانمارك وغيرهم من غزاة الشمال من النرويجيين والسويديين، وكل من أعاد نشر تلك الصور، دون أن يبدو أن تلك الموجة يمكن أن تتوقف. لقد حاول كثيرون من المسئولين الرسميين ممن يعتقدون أيضا أن ماحدث أكبر من أن يحتمل، أن يردوا بطريقة متعقلة من خلال التعبير عن الاحتجاج، عبر استدعاء سفراء الدانمارك في عواصمهم، أو استدعاء السفراء المقيمين في الدانمارك، ومن المؤكد أنهم سمعوا بعض التفسيرات ذات الأهمية في توضيح المسألة، لكن صيحات الجماهير كانت أعلي من أن تقاوم، لذا اتخذت ردود الأفعال طابعا رسميا في كثير من الأحيان، خاصة وأن أحدا لايرغب في أن يتعرض لمشكلة داخلية، فالمزايدات تسير علي قدم وساق، والويل لمن يحاول أن يقف في طريقها، لاسيما في ظل موجة المد الديني الحالية. والنتيجة أن معظم القوم قد تحولوا إلي دراويش، ولم يعد الأمر يتعلق ب " هبة للرسول" فقط، وإنما بتفريغ شحنات واختبارات قوة، وإمعان في تعميق الكراهية للآخرين، وتشويه أبعد مدي لصورة المسلمين، وتعميق أكبر للمخاوف القائمة منهم في كل مكان. لكن لأن مصر دائما أرض الكنانة، ولاتفقد عقلها، فقد ظهرت أصوات كصوت الدكتور علي جمعة مفتي البلاد وأحد ممثلي الإسلام الصحيح العاقل ليدعو إلي عدم اتخاذ مواقف عدائية ضد الدانمارك أو النرويج أو مقاطعة منتجاتهما، مؤكدا علي ضرورة إلتزام الهدوء والبحث عن صيغ أفضل للتواصل والحوار، تتضمن احتجاجات دبلوماسية وزيارات من جانب صحفيين دانماركيين لمصر، مشيرا في عبارة موحية أن ذلك أفضل من " الهنطرة ورفع الذيول". لكن رفع الذيول قد استمر. بقيت فقرة واحدة ترددت كثيرا في كتابتها، لكن الجميع يعرفونها جيدا، وهي أن ماتتظاهر الجماهير الغفيرة بشأنه يوجد في المنطقة العربية والإسلامية أيضا، وكل من تجاوز خط الحدود المصرية إلي دول أخري عربية قريبة منا في المنطقة، أو دول إسلامية غير عربية مجاورة، يدرك أن مانقول أننا نحرص علي عدم المساس به، يتم المساس به بالفعل، دون أن يمثل ذلك كارثة كبري، سواء في أذهاننا أو بالنسبة لمشاعرنا، لأننا ندرك حين يتعلق الأمر بنا أن الرسول أقدس من أن تؤثر في مكانته رسوم وأن الصحابة ذوو مواقع راسخة لايؤثر فيها شئ. إن هناك " صورا" بل ونكات يتم تداولها، ومحاولات لقراءة التاريخ بصور مختلفة عن المألوف، وفرقا تتبني معتقدات مثيرة للغاية، لكننا نتجاهلها لأننا نحب أن نتصور أن من يفعلون ذلك منا ليسوا بصورة ما من الأشرار، أما عندما تأتي الرسومات من بعيد، فإنها تتحول إلي إهانة لايمحوها إلا الدم، وهنا لايسع في النهاية إلا القول بأن التسامح فضيلة والعقل زينة كما كان يكتب قديما علي ظهر كراسات تلاميذ الابتدائية، ولنتوقف نحن عن الإضرار بالإسلام أولا، قبل أن نتظاهر ضد الآخرين ليفعلوا ذلك.