إذا ما فكر المرء في الأمر ملياً، فسيجد أنه ما زالت ثمة أوروبتان علي ما يبدو، فالبرغم من انهيار جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة، والوحدة الأوروبية عبر انضمام دول "ميثاق فارصوفيا" القديمة إلي الاتحاد الأوروبي، ما زال ثمة انقسام. وهذا الانقسام لم يعد يفصل أوروبا الغربية عن أوروبا الشرقية، ولا أوروبا الكاثوليكية عن أوروبا البروتستانتية، ولا حتي بين أوروبا الجنوبية وأوروبا الشمالية. كما أنه ليس قائماً بين أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة، علي حد وصف وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، بسبب الخلاف الذي نشأ بين الدول الشرقية المنضمة حديثا إلي الاتحاد الأوروبي والمؤيدة للمخططات الأمريكية بشن الحرب علي العراق، والدول المؤسسة للاتحاد كفرنساوألمانيا وبلجيكا التي عارضت الحرب بقوة. ومما لاشك فيه أن رامسفيلد حين تحدث عن "أوروبا الجديدة" التي تتطلع إلي المستقبل فإنما كان يقصد الأولي التي تجد نفسها في مواجهة "أوروبا القديمة" التي عليها في نظره أن تتنازل عن الزعامة. كلا، فإن كان ثمة فعلا أوروبتان فهما أوروبا المؤسسات التي تجتاز أزمة حقيقية حاليا، وأوروبا المشروعات التي تواصل حصد النجاح تلو الآخر. علينا أن نقر بأن أوروبا المؤسسات تشهد أزمة حادة حالياً، فقد نشأت بين الدول الأعضاء مؤخراً خلافات كثيرة استغرقت وقتاً طويلا قبل أن تتمكن في الأخير من الاتفاق علي ميزانية الاتحاد، كما أن مبدأ التضامن يبدو أنه آخذ في التراجع كلما توسع الاتحاد الذي غدا يضم اليوم 25 دولة عضواً، ذلك أن الجو والشعور المشترك بالانتماء لم يعودا بالقوة التي كانا عليها عندما كان الاتحاد يقتصر علي 6 دول أو 12 دولة. ثم إن مشروع الدستور الموحد ووجه برفض خلال الاستفتاءين اللذين نظما في كل من فرنسا وهولندا. ولئن حظي بالموافقة في بعض الدول، فذلك فقط لأن الناس في تلك الدول واعون (باستثناء أسبانيا ولوكسمبورج) بأنه مازال أمامه حاجز البرلمان قبل تبنيه. كما يشير عدد من المؤشرات إلي أنه لو تم عرض مشروع الدستور الموحد علي استفتاء شعبي في ألمانيا لكان لقي المصير نفسه الذي لقيه في فرنسا وهولندا، هذا في حين لم يشأ البريطانيون عرضه علي الاستفتاء. لكن بالمقابل، لا أحد يمكنه نفي حقيقة أن أوروبا المشاريع تحقق نجاحاً لافتا علي صعيد التعاون الاقتصادي والصناعي. في الثامن والعشرين من ديسمبر، تم إطلاق الصاروخ الروسي "سويوز" من قاعدة "بايكونور" لوضع جهاز في المدار بهدف اختبار قدرات "غاليليو"، وهو اسم المشروع الأوروبي الذي يتيح تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية، وذلك تحت إشراف وكالة الفضاء الأوروبية، وهي هيئة مدنية. وإلي جانب الدول الأوروبية، تشارك الصين في هذا المشروع الذي ينتظر أن يضع حداً لاحتكار النظام الأمريكي "جي بي إس" (نظام تحديد المواقع) الذي يشرف عليه البنتاجون، حيث يعد ال"جي بي إس" حالياً النظام الوحيد في العالم الذي يسمح بإرشاد السفن والطائرات والسيارات، بل وحتي الأشخاص. غير أنه ينتظر في أفق 2010 أن يسمح نظام "جاليليو" بفضل أقماره الاصطناعية الثلاثين تحديد المواقع بدقة أفضل ب10 مرات من نظيره الأمريكي "جي بي إس". حينها يرتقب أن يصبح ندا قويا علي الصعيد الاقتصادي ل "جي بي إس"، طامحاً إلي أن يحذو حذو طائرة "إيرباص" التي أثبتت تفوقها علي طائرة "بوينج"، علما بأنها انطلقت متأخرة ولكنها تمكنت من تدارك الوقت الضائع والتفوق علي منافستها الأمريكية. ومما يجدر ذكره أن حجم الاستثمار في مشروع "جاليليو" يقدر بما لا يقل عن 3.8 مليار دولار، في حين يتوقع أن يبلغ رقم معاملات السوق العالمية لتحديد المواقع بالأقمار الاصطناعية ب250 مليار يورو خلال 2020 حيث يتوقع أن يشهد الإقبال علي هذه الخدمات تزايداً كبيراً. وعلاوة علي ذلك، زكي صاروخ "آريان" حقيقة أن أوروبا المشاريع الفضائية تستطيع أن تكون نداً قوياً في الميدان المدني للولايات المتحدة، وتضم شركة "إيرباص" حاليا تشكيلة كاملة من الطائرات، ينتظر أن تتعزز بانضمام طائرة إيرباص 380 التي ستصبح أكبر طائرة نقل مدني في العالم، كما أن الإقبال علي شرائها ما انفك يتزايد. وبلغة الأرقام، تمكنت شركة "إيرباص" من بيع 370 طائرة سنة 2005 مقابل 290 طائرة لشركة بوينج. إلي ذلك، ما فتئت أوروبا تحرز تقدما ملموسا في مجالي الطاقة والبحوث النووية في وقت يتزايد فيه القلق إزاء ارتفاع حرارة كوكب الأرض والاحتباس الحراري. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد أولت أهمية كبيرة لشبكة الطرق البرية، فإن أوروبا آثرت أن تضع نصب أعينها تطوير القطارات السريعة وتعزيز شبكتها علي الصعيد الأوروبي بهدف تقريب المسافات. أما بالنسبة لتكنولوجيا المعلومات الحديثة، فإن أوروبا بصدد تدارك تأخرها فيما يخص البحث العلمي والتجهيزات. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تسجل تقدما واضحا في مجال التكنولوجيا البيولوجية، فإنه من غير المؤكد أن تخلو جهودها الرامية إلي تطوير المواد المعدلة جينيا من العراقيل. وبخصوص العملة الأوروبية الموحدة "اليورو"، التي شكك الكثيرون في آفاقها، تجد الإقبال علي استعمالها يزداد يوماً بعد يوم من قبل البنوك المركزية غير الأوروبية، ما دفع عدداً من المراقبين إلي توقع أن يصبح اليورو بديلاً للدولار في حال فشلت الولاياتالمتحدة في تقليص عجزها. باسكال بونيفاس وجهات نظر