بين الروس الذين حضروا اللقاء، وبعض الأوروبيين، كان من اللافت وجود اهتمام أكبر علي ما يبدو بتكتل روسي -أوروبي يوفر علاقات سلمية إضافة إلي امتيازات تجارية واقتصادية، وبخاصة في ما يتعلق بأسواق وإمدادات الطاقة لعل أكثر ما فاجأ الكثيرين في النقاشات التي أثيرت في "منتدي السياسة الجديدة" الذي عقد هنا في العاصمة البلغارية صوفيا خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، تحت رعاية "منتدي جورباتشوف" في موسكو و"مؤسسة سلافياني" البلغارية، هو أن أحداً لم يأتِ علي ذكر "الحرب الطويلة" الأمريكية علي الإرهاب الدولي والتطرف العنيف، لم يحدث هذا ولو مرة واحدة، وذلك لأنه لا أحد علي ما يبدو يري أنها جديرة بالاهتمام، وإن كان البعض قد أشار إلي الموقف الحالي للولايات المتحدة، علي نحو متشائم غالباً. ولما كان المشاركون في المؤتمر من شرق وسط أوروبا وأوراسيا، إضافة إلي أوروبا الغربية وبريطانيا وأمريكا، فقد بدا هذا التحاشي مثيراً للاهتمام، لأنه يعكس، بشكل محسوس، عدم اهتمام الآخرين بانشغالات واشنطن العسكرية والجيوسياسية الحالية. وفي المقابل، فقد كان ثمة اهتمام أكبر بعمليات التحول المختلفة الممكنة للقوة السياسية والاقتصادية العالمية لروسيا وجيرانها في القوقاز وآسيا الوسطي وكتلة الاتحاد الأوروبي (التي كانت بلغاريا أحدث المنضمين إليها) والصين في المستقبل. "أوروبا تنظر إلي الشرق" كان هذا هو الموضوع الرسمي للمنتدي؛ ولئن كان ذلك يعني علي ما يبدو تطلع أوروبا الأطلسية والشرقية إلي روسيا وما وراءها، فإن الأهم يبقي نظرة أوروبا الغربية إلي علاقاتها مع روسيا تحديداً، إضافة إلي أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفيا. أما الموضوع الشائك الثاني، فهو البلقان، المنطقة التي ما زالت تحتضن أقدم متاعب أوروبا، بما في ذلك مشاكل أوروبا الغربية في التعاطي مع المهاجرين من البلقان. وفي العلاقات بين دول البلقان، تلقي الأطراف المعنية بجزء كبير من المسئولية علي اتفاقات "دايتون" التي أنهت حروب الانقسام اليوغوسلافية تحت رعاية أمريكية، عقب حملة القصف التي شنها "الناتو" علي صربيا والانفصال الفعلي لكوسوفو عنها. والحال أن التدخل الأمريكي كان نتيجة رفض أوروبا الغربية المخزي التعاطي بجدية مع حروب التفكك اليوغوسلافية، التي أشعلتها جهود صربيا الرامية إلي الاستيلاء علي المناطق التي يسكنها صرب في كرواتيا والبوسنة المجاورتين. وبدلًا من أن يطالب الأوروبيون سلوبودان ميلوسوفيتش بالكف عما كان يقوم به عبر التلويح بتدخل عسكري أوروبي (بتفويض من الأممالمتحدة) مؤثر ورادع (يذكر هنا أن الولاياتالمتحدة امتنعت عن ذلك حيث قال جيمس بيكر قولته الشهيرة: "لسنا معنيين بهذه الحرب"، وبالفعل كان الأوان قد حان لكي تتحمل أوروبا المسئولية)، استقر رأي الأوروبيين علي قرار ومهمة عبثيين من الأممالمتحدة لحفظ السلام. ولأنه لم يكن ثمة سلام ليحفظ أصلًا، فإن هذه المهمة أمضت وقتها في تلقي الضربات من الجانبين إلي أن وقعت مذبحة سريبرينيتشا في 1995، ودفع اضطهادُ صربيا لسكان كوسوفو الأوروبيين إلي طلب المساعدة من الولاياتالمتحدة. ثم أعقبت ذلك، حملة قصف للبوسنة والهرسك ثم صربيا، إلي أن أنهت اتفاقات "دايتون" الحرب. غير أن تلك الأحداث أنتجت عدداً من السوابق المزعجة: حملة قصف "الناتو" غير القانونية، وإعلان كوسوفو بشكل أحادي عن الاستقلال في 2008 (وقد ألمح البعض إلي أنه في ما يخص سابقة كوسوفو، فإن الفلسطينيين يمكنهم أن يطالبوا بفرض الأممالمتحدة لاستقلالهم الوطني داخل الأراضي التي حددت لفلسطين بموجب التقسيم الأممي للبلاد في 1948)؛ كما وجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام مسألة قبول دول البلقان التي ما زالت خارجه -وما ينبغي فعله في حال لم يقبلها. وبالعودة إلي المواضيع الجيوسياسية الأكبر، فقد تم التطرق لموضوع عضوية روسيا في الاتحاد الأوروبي، وإنْ لم يكن ذلك بقدر كبير من الجدية، وكذلك الحال بالنسبة لموضوع انضمام روسيا ل"الناتو"؛ غير أن من شأن هذا الأخير أن يجعل من وجود الحلف أصلًا أمراً غير ذي جدوي، وإن كان سيترك للولايات المتحدة دور الزعيم الدائم علي ما يفترض، وهذا أمر سيرضي واشنطن، دون شك. ولكن إذا كانت مهمة الحلف في الماضي هي محاربة روسيا، فإنها أصبحت اليوم علي ما يبدو خوض حروب أمريكا، وهذا أمر سترفض روسيا علي الأرجح القيام به (إذ كيف ستنظر جورجيا ودول البلطيق إلي العضوية الروسية، علماً بأن السبب الرئيسي لانضمامها إلي "الناتو" هو دواعي حمايتها من روسيا؟). وبين الروس الذين حضروا اللقاء، وبعض الأوروبيين، كان من اللافت وجود اهتمام أكبر علي ما يبدو بتكتل روسي -أوروبي يوفر علاقات سلمية إضافة إلي امتيازات تجارية واقتصادية، وبخاصة في ما يتعلق بأسواق وإمدادات الطاقة؛ ولكن في عهد بوتين، علي الأقل، فإن هذه العلاقة مع روسيا تُفهم في أوروبا الغربية علي أنها تنطوي علي خطر ضمني: إمكانيات تتراوح من الترهيب السياسي من قبل مصدِّري الطاقة الروس، إلي الابتزاز الطاقي، الذي يعد مَصدراً حقيقياً لسوء التفاهم والنزاع. وفي المقابل لا أحد يعرف كيف يقرأ مستقبل الصين، ولا الدور الذي ستلعبه في مخطط جيوسياسي عالمي مستقبلًا؛ غير أن الإمكانيات علي ما يبدو تشمل نزاعاً مع الولاياتالمتحدة حول الهيمنة في الشرق الأقصي (أو الحُكم العالمي، مثلما قد يقول المحافظون الجدد). ثم إنه إذا كان ثمة قلق في أوروبا من إمكانية قيام الولاياتالمتحدةوروسيا بتقسيم أوروبا بينهما، فكيف ستنظر اليابان إلي اتفاق سياسي بين الولاياتالمتحدة والصين علي اقتسام النفوذ هناك؟ الواقع أن كل هذا يجعل حرب أفغانستان تبدو بسيطة، إذ كل ما علي حلفاء "الناتو" فعله في هذه الحالة هو الذهاب إلي بلدانهم وترك الأفغان (طالبان وغيرها) والباكستانيين والبشتون والطاجيك والهنود وغيرهم ليسوُّوا مشاكل المنطقة فيما بينهم، وهو ما سيفعلونه علي الأرجح في نهاية المطاف.