هل تكذب موسكو تنبؤات فوكوياما وهنتنجتون بنهاية التاريخ ؟ هل تصدق توقعات نائب رئيس الدوما ميخائيل بورياف بظهور امبراطورية روسية ثالثة ؟ الشاهد ان موسكو تستعيد عافيتها وقد استغلت أزمات واشنطن الاخيرة ومن بينها الازمة المالية الطاحنة في الغرب ،وتورط حلف الناتو في افغانستان والعراق واخيرا ازمة الصواريخ الأمريكية في بولندا والتشيك،واستطاع القائد فلاديمير بوتين أن يوظف التناقضات الاوروبية -الأمريكية من أجل اعادة بناء الاتحاد السوفيتي او بناء تكتل عالمي لكن علي أسس جديدة وصفها المراقبون الغربيون ب"البيروستريكا الثانية" فما سماتها وإلي اين تمضي؟ وهل هي شطحات محللين سياسيين ام ثمة شواهد واقعية تؤكد عودة الدب الروسي الي المسرح مجددا كمنافس للناتو ؟ المراقبون توقفوا عند تحركات اقوال الرئيس الروسي ميدفيديف "وهو الوجه الآخر لبوتين" الذي دشن مؤخرا اتفاقا تاريخيا بين بلاده وبيلاروسيا وقال ان البلدين يمضيان في الطريق الي الاندماج في دولة واحدة،وقال المراقبون ان روسيا تلعب بورقة النفط والغاز وتقدم حوافز لجيرانها لكي تغريها بالاندماج. وذكرت وكالة الأنباء الروسية " نوفوستي" أن الجارين السوفييتيين السابقين يحاولان منذ عام 1996 قيام اتحاد فيما بينهما ولكنهما حققا نتائج مبهرة في الفترة الاخيرة لجهة التعاون العسكري والاقتصادي بينهما. وكان الرئيس البيلوروسي لوكاشينكو قد فاجأ نظيريه الروسي ميدفيديف والكازاخي نزاربايف عندما وصفهما في كلمة استهل بها اللقاء الذي ضم رؤساء دول "الاتحاد الجمركي" الثلاث في العاصمة البيلوروسية مينسك 27 نوفمبر/ 2009 ب"الرفيقين المحترمين"، وأبلغهما أن بيلاروسيا احتضنت اجتماعا تاريخيا له تأثيره في "مصير بلداننا"، ورد الرئيس الروسي ميدفيدف داعيا الي تحويل روسيا وجيرانها الي قوة عالمية علي اسس جديدة وجوهرية". وصدر عن الاجتماع المنعقد في مينسك قرار بتوحيد مستوي التعريفة الجمركية بين دول الاتحاد الجمركي اعتبارا من اول يناير 2010 تمهيدا لإقامة الاتحاد الاقتصادي الكامل علي أرض الواقع في عام 2012. واعتبر محللون أن الرئيس البيلوروسي قصد أن "ينطلق الاتحاد السوفييتي من رماده في صورة اتحاد اقتصادي- جمركي" في عام 2012،وقال ميدفيديف في رسالة بمناسبة الذكري العاشرة لاتفاقية الوحدة بين روسيا وبيلاروسيا التي توافق 8 ديسمبر "إننا نسير علي الطريق المؤدي إلي قيام جمارك وفضاء اقتصادي موحد". خطة بوتين"اعادة البناء" واقع الحال ان تحركات ميدفيديف في الحديقة الخلفية لروسيا لم تأت من فراغ وانما هي جزء من فلسفة سياسية رسمها بوتين ترنو الي مستقبل روسي مشرق حيث اشار الزعيم الروسي الي هذا خلال كلمته امام مؤتمر "روسيا الموحدة " الي ضرورة الشروع في تطبيق الخطط الاستراتيجية للنهوض بروسيا داخليا وخارجيا فيما يسمي ب"خطة بوتين"وهي تقوم علي محورين: الاول هو تنشيط التعاون الاقتصادي والتجاري مع الجيران، واستعادة ماكان بينهم من علاقات تاريخية ،لكن وفق نظرية المصالح الاقتصادية وليس الارتباطات العقائدية. اما المجال الحيوي الثاني لروسيا فهو دخول المسرح العالمي بقوة من باب المشاكل واهمها- شرق اوسطيا- المشكلة الغربية مع ايران والمشكلة العربية الاسرائيلية ،وهنا رصد المراقبون الاجراءات الروسية التالية: اولا:قرر بوتين توظيف استثمارات مالية في دول الجوار تقدر ب20بليون دولار معظمها استثمارات نفطية وعسكرية، تقول لور دلكور، مديرة البحوث في "معهد البحوث الدولية والاستراتيجية" الفرنسي "ان الاهتمام الروسي المتزايد بجيرانها هو أن موسكو لا تسعي فقط إلي استعادة موقِعها السياسي والعسكري في المنطقة، وإنما أيضا إلي توسيع علاقاتها الاقتصادية للعب دور أكبر في قِطاع النفط والغاز الذي أدركت أهميته، خلال أزمة الغاز مع أوكرانيا والبلدان الأوروبية خلال فصل الشتاء". صفقات نفط وسلاح ثانيا: مد النشاط الاستثماري الروسي الي المنطقة العربية وافريقيا انطلاقا من الجزائر وليبيا، وسوريا، والامارات العربية المتحدة، وتركيا علي اعتبار انها دول ذات اهمية كبيرة في اطار المنطقة ونقاط استراتيجية وجيوسياسية مهمة، وهذا ما أكّده ميخائيل دميترييف، مدير الهيئة الفيدرالية الرّوسية للتعاون التِّقني "أن موسكو تسعي في الآونة الأخيرة إلي تطوير التّعاون العسكري والتِّقني مع الدّول العربية ودخول أسواق جديدة، مُذكِّرا بتوقيع عقود ضخْمة"؛ واعلن الاميرال فلاديمير ماسورين قائد البحرية الروسية عزم روسيا اقامة قواعد حربية لها في سوريا "في منطقتي اللاذقية وطرطوس" لتعزيز الثقة المتبادلة بين الأسطولين الروسي والسوري، اما علي الجانب الاقتصادي فقد تم في عام 2005- 2006 توقيع اتفاقية اقتصادية تجسدت بفتح العديد من المصانع المشتركة، اضافة الي مجلس لحماية رجال الاعمال السوريين ومنع الازدواج الضريبي مترافقاً مع منظومة امنية لحماية التعاون الاقتصادي السوري الروسي، حيث بلغ معدل التبادل التجاري بين البلدين في عام 2007 ما يزيد علي مليار دولار، بالاضافة الي شطب 10 مليارات دولار من ديون سوريا، وتزويد سوريا بالمنتجات النفطية بنسبة 57% من نسبة الصادرات الروسية، وعثرت شركة "تاتنفت" الرّوسية في الفترة الأخيرة علي ثلاثة حقولٍ نفطية في سوريا، اضافة الي ذلك فقد قامت شركة "سترويس رايس" الروسية علي مد انابيب الغاز علي طريق الاردن لتصل الي مضختي غاز تدمر، اضافة الي ازدياد الشركات السياحية بين روسيا وسوريا. وأعلن المدير العام لمصنع السفن العالمية "سيفرنايا فيرت" انديه موميتشيف ان روسيا ستنفذ التزامها تجاه الجزائر والعمل علي تصنيع غواصتين وتحديث سفينتين صاروخيتين تابعتين للقوات البحرية الجزائرية ،ويترافق هذا مع صفقات السلاح الموقعة بين روسياوالجزائر بقيمة 4.7 مليار دولار، وتحتل الجزائر المرتبة الثانية بين بلدان العالم المستوردة للاسلحة الروسية، هذا بالاضافة الي عمليات شطب الديون المستحقة لروسيا وتحويلها الي استثمارات جزائرية روسية، واعتبر الدكتور يوري زينين الخبير في امور الشرق الاوسط أن روسيا الاتحادية مؤهلة للمساهمة بفاعلية في تنفيذ المشاريع التكاملية بين دول مجلس التعاون الخليجي بمشاركة القطاعين العام والخاص في إطار تنويع الاقتصاد والإنتاج في البلدان الخليجية،حيث انه توجد في الامارات العربية 500 شركة روسية بكلفة إجمالية قدرها 35 مليار دولار و200 شركة روسية اماراتية و80 شركة روسية في مناطق حرة ، اضافة الي بناء أكبر مشروع عقاري روسي تنفذه شركة من دبي بقيمة 11 مليار دولار علي مشارف روسيا تحت اسم مدينة "دوموديدوفو". ثالثا:ان روسيا ربطت بين التعاون الاقتصادي مع لعب دور في الملف الفلسطيني المعقد بالعمل علي اقامة المؤتمر الدولي حول الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ما جعل روسيا تلعبُ دورا دبلوماسيا، وتكتيكيا من خلال العلاقات والمجالات الاقتصادية والسياسية والتجارية، مثل الطاقة النووية السلمية، والاستثمار في قطاع الغاز والبتروكيماويات، والسعي لانشاء طريق النقل الدولي السريع "الشمالي- الجنوبي" الموقع بين روسياوايران والهند، واحتمال دخول الامارات العربية الي هذا الطريق. الصدام مع واشنطن وبطبيعة الحال فإن استراتيجية روسيا سوف تصطدم بالطموحات الأمريكية ،لذلك قرر بوتن التعامل معها بايديولوجيا جديدة، حيث وصفها ب"الصديق الذئب"، وهو يدرك ان الطرف الامريكي يدرس كل الامكانيات لصد هذا التقدم الروسي، لذلك تعمد اتخاذ موقف متشدد و«عقوبات» ضد المشروع النووي الايراني وان لم يوافق علي اي تهديد عسكري لايران ،ومن هنا فإن البريسترويكا الروسية الجديدة تحمل في طياتها سيناريوهات غير تصادمية مع أمريكا واخواتها بل تسعي للخروج "علي نار هادئة" من تحت الركام لتشكل ثقلا اقليميا ودوليا، علي اعتبار ان بريسترويكا جورباتشوف القديمة كانت تمر في مرحلة سكرة الموت، اما الجديدة فهي مغايرة وفق مفهوم جديد يرافقه سطوع للنجم الروسي.