بعد أن اضطرّ النظام الحاكم إلي الكشف عن رفضه البات لمشاركة أي فئة من الشعب، من خلال نظام ديمقراطي مزيف انتهت صلاحيته.. هل يعقل أن يقبل بالتنازل عن نسبة من سلطة اتخاذ القرار لمستويات وفئات من الشعب، رأسيا وأفقيا؟! هل يجوز لي أن أتحدّث عن طبيعة الممارسة الديمقراطية لعصر المعلومات، أعني بذلك "ديمقراطية المشاركة"، في نظام يرفض التغيير شكلا ومضمونا، حتّي لو كان تغيير الكهنة الحاليين بكهنة جدد من صلب النظام؟! . نظام يعمد عندما تفوح الرائحة النتنة لقيادات الإعلام الحكومي إلي أن يختار قيادات جديدة، لا تختلف عن القيادات السابقة إلا في أنها أكثر شراهة للكذب والنفاق في حلبة المنافسة المستجدّة، وأكثر لهفة لتحقيق جانب من المكاسب التي سقطت متناثرة من القيادات القديمة؟ هكذا سألت نفسي باندهاش واستنكار.. ومع ذلك فلم أستطع أن أتوقّف! ما الذي يرغم النظام؟ ما الذي يرغم هذا النظام الحاكم الذي تكلّست فقراته، علي أن يتحرّك، ولا أقول أن يغير شيئا؟، لقد رسب في وعي الحاكم اطول ما التصق بكرسيه إنه قدر مصر!! وما هي الظروف غير الموضوعية التي تتيح التغيير؟، وأنا هنا ما زلت أتكلّم عن تغيير النظام، وليس الحاكم، أو طاقم الحكم. المعروف علميا أن النظام أي نظام سواء كان دولة، أو مؤسسة، أو جسداً بشرياً، أو مركّباً كيميائياً يتغير وفقا للضغوط الداخلية والخارجية التي يتأثّر بها. وعندما تتزايد الضغوط الخارجية والداخلية إلي حد معين ينفجر النظام، وينتهي. البديل الوحيد للانتهاء والتلاشي، هو وجود رؤية بديلة، تساعد النظام أن يتغير جذريا، ويعيد بناء نفسه بطريقة تسمح له بمواجهة الضغوط القوية (إذا كانت لدي القارئ أية حساسية سياسية، أو كان من كذبة أقصد كتبة الصحف الحكومية، فعليه أن يتصوّر حديثنا هذا يدور حول أحد المركبّات الكيميائية، وليكن كلوريد الصوديوم، وليس النظام الحاكم المصري!!). ومصر، في السنوات الأخيرة، أصبحت نموذجا لتواطؤ الضغوط الخارجية مع الضغوط الداخلية.. وهذا هو ما يهدد الكيان المصري، والمستقبل المصري وليس النظام المصري فقط. وهذا هو ما يدفعنا إلي ضرورة تبنّي رؤية مستقبلية بديلة لإعادة بناء مصر، وضرورة أن تتكاتف جميع القوي المخلصة الفاهمة، لإرساء أسس تلك الرؤية المستقبلية، ثم فرض الشكل الأمثل لتحقيقها. الرؤية المستقبلية لمصر، والتي أتحدّث عنها تختلف تماما عن الاستراتيجيات والخطط التي ترسمها الأجهزة الأمريكية، والتي نقرأ عنها في أدبيات وزارة الدفاع الأمريكية (راند)، ومجلس الاستخبارات القومي الذي يضم كافة أجهزة المخابرات، أو موقع مشروع القرن الأمريكي الجديد، أو في مطبوعات المحافظين الجدد، ومجلة الويكلي استاندارد.. لقد درست هذه الجهات الأمريكية أيضا احتمالات التغيير في دول الشرق الأوسط، غير أن الهدف الذي يعلنونه بصراحة، هو المحافظة علي مصالحهم وليس مصالحنا في المنطقة. العزلة تعني الانتحار! والرؤية المستقبلية من مصر، رغم انطلاقها من الواقع الحالي المتردّي، تنبع من الرؤية المستقبلية للجنس البشري، في توجّهه إلي مجتمع المعلومات.. هذه حتمية ستعم الجميع، بمن في ذلك دعاة العودة 14 قرنا إلي الوراء. الانعزال كان ممكنا في أوج سيادة عصر الصناعة، لكنّه الآن يعني الانتحار. مجتمع المعلومات له محدداته في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، علينا أن ندرسها ونفهمها، حتّي نحقق القصد في تفكيرنا.. ومن بين أهم أسس الممارسة السياسية في مجتمع المعلومات، التحوّل من ديمقراطية التمثيل النيابي، إلي شكل جديد من الممارسة السياسية، يتوافق مع حياة البشر في مجتمع المعلومات، لكن هذا التحوّل الكبير، شأنه شأن التحولات الكبيرة الأخري، يجب أن يتم تطبيقها بشكل متجانس، وبتوقيتات سليمة، وفقا لاستراتيجية نابعة من الرؤية المستقبلية التي نتحدّث عنها. بكلمات أخري، لا يمكن تطبيق ديمقراطية المشاركة، إلا في ظل تعليم وإعلام ينشدان إحياء العقل والتفكير والابتكار، واحترام اختلاف الفرد عن الآخرين، ويشيعان منطق المشاركة في جميع مراحل وجوانب الحياة. (وهذا هو عكس ما كان يتطلبه عصر الصناعة من الاعتماد علي التلقين والقولبة). أيضا في ظل اقتصاد حرّ لا تحتكره الحكومة، ويمضي وفق محددات جديدة تماما، اقتصاد رمزي، يعتمد علي نقود رمزية.. اقتصاد قادر علي التعامل مع الطبيعة الخاصّة للمعلومات، وعلي تعلية قيمتها بالنسبة للسلع والخدمات. تحذير واجب! لا بد هنا من طرح تحذير واجب، فيما يتصل بقدرة كهنة الحكم علي استهلاك المصطلحات، والعبث بالكلمات بهدف التضليل والتزوير.. وإليكم مجالات التحرّك نحو ديمقراطية المشاركة. عشرون عاما مضت وأنا أكتب عن ضرورة إعادة بناء التعليم في مصر، وفق احتياجات عصر المعلومات.. كتبت المقالات والكتب، وتكلّمت في الإذاعة والتليفزيون، وحاضرت في مجتمعات تضم العديد من رجال التعليم.. ودخلت في حوارات ومعارك مع وزراء التعليم المتعاقبين، وكان نصيبي حلو الكلام والمهادنة، كما كان الحال مع د. فتحي سرور ود. جمال الدين، والحرب المسعورة علي يد د. حسين كامل بهاء الدين. والنتيجة: لم يتغير شيء. التعليم الحالي عندنا، في مختلف المراحل، من المرحلة الأولي وحتّي التعليم العالي، لا يوصف فقط بالتخلّف أو الانحطاط، بل هو في واقع الأمر جريمة في حقّ مصر، وحق الأجيال القادمة، التي ستجني ثمار التخلّف والبطالة التي ارتضيناها. الحكم المحلّي، علي مختلف المستويات، هو آلية ديمقراطية المشاركة الأساسية، ومنذ سنوات طويلة ونحن ندّعي إقامة حكم محلي، وكل ما فعلناه أن أقمنا وكالات للحكم المركزي، سلمنا أمرها لعشرات من ضباط الشرطة (معظمهم كان فاسدا، أو أفسد بحكم طبيعة العمل). وجعلنا الحكم المحلّي من العاصمة وحتّي القرية، مكاتب فرعية لمكتب السيد كمال الشاذلي، يدير بها أي انتخابات لحساب الحاكم . الحكم المحلّي المطلوب في ديمقراطية المشاركة، يكون لحساب إشاعة الحس الديمقراطي، وزرع فكرة حرية الاختيار، علي مختلف المستويات.. وهو يعمل لحساب الموقع، ويتخذ القرارات المناسبة في حدود الاختصاص، وفقا للاستراتيجية العامة للدولة، ودون ضغوط من أعلي.. هو حكم لحساب الشعب في القواعد وعلي مختلف المستويات، وليس سلطة تعمل لحساب الحاكم في العاصمة . فكّ حصار الدولة عن نشاط منظمات المجتمع المدني، هو ضمان التمهيد لديمقراطية المشاركة. غير أن مجموعات العمل المدني التي أعنيها، تختلف عن التي نعرفها حاليا وتقصر نشاطها في مكاتب وصحافة واستديوهات تليفزيون وإذاعة القاهرة. مجموعات العمل المدني المطلوبة تكون في القري والمراكز والأحياء، تتدرّب علي فهم مصلحة النطاق الذي تتحرّك فيه، وعلي حمايته من نفوذ كلّ من له نفوذ، وتساعد الجمهور المحدود علي اتخاذ القرارات النافعة له. إذا كان الكلام السابق يشير إلي التمهيد لعملية الهبوط بنسبة من مسئولية اتخاذ القرار، من قمّة الدولة إلي قواعدها، بشكل رأسي، فهناك أمر آخر يتّصل بتوزيع نسبة من مسئولية اتخاذ القرار رأسيا هذه المرّة . وقد نعود إلي شرح هذا بالتفصيل مستقبلا، لكن مجمل القول أن ديمقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها الآباء الأوائل لعصر الصناعة، جاءت متأثّرة بمنطق الأشياء في عصر الزراعة السابق له، لهذا لم يكن بإمكانهم إقامة نظام ديمقراطي بعيدا عن التوزيع الجغرافي (وهو ما نطلق عليه اليوم الوحدات الانتخابية). لكن الأمر يتغير حاليا. ديمقراطية المشاركة، تحتمل التوزيع الأفقي لجانب من عملية اتخاذ القرار، بتعميق الممارسة الديمقراطية في الاتحادات والنقابات والهيئات العلمية والجامعات، وتصعيد حصيلة تلك الممارسة، أو صفوتها، إلي المستوي الأعلي للتشكيلات الديمقراطية في الدولة، لتشارك بنسبة معينة الصفوة المصعّدة من التشكيلات الرأسية. * * * أمامنا احتمالان: أن يفهم النظام الحاكم طبيعة التغيرات المتسارعة التي تحاصره، ويمهّد طوعا للتغييرات الأساسية، التي لابد أن تعني انسحابه في مرحلة معينة.. أو أن يمضي فيما هو فيه، معاندا ومتجاهلا جميع الضغوط المتزايدة، باعتبار أن ربنا كريم!