هل جلست معه يوما..? ألم تشعر في صحبته بأنك مع شجرة وارفة الظلال تنوء بثمارها وربما توخزك بأشواكها، وفي الحالتين أنت المحظوظ لأن في الثمار متعة وفي الأشواك يقظة إنها شجرة الحكي أو تل الحكايات أو محمد مستجاب، كلها مترادفات لمعني واحد، رائع حقا أن يمر الإنسان في حياته بهذا الكم الكبير والمحيط الهادر من التجارب والخبرات والأحداث المتلاحقة والمتنوعة، وأروع من ذلك أن يحتفظ بذاكرة حافظة تستطيع أن تستدعي ما يريده وقتما شاء في تسلسل عجيب، ممسكا بكل خيوطها في براعة يحسد عليها. والأروع من ذلك أن يبلور ما يحكي في إطار له ملامحه الخاصة وأغواره العميقة كل هذا في سلوب عفوي تلقائي ينساب في هارمونية انسياب النغمات الموسيقية المتواترة دون نشاز أو تباطؤ، سيمفونية الحكي هنا مكتملة الأركان سليمة البنيان بدأت حكاية ذاك الكاتب المشاكس في ديروط الشريف، في أسيوط بمصر في الثانية والعشرين من يوليو عام 1938، حيث المولد والنشأة في أسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن توفر لقمة العيش لأفرادها، ويمكن أن نتوقع ما سوف يحدث لمن يولد في مثل هذه الظروف. وبعيدا عن التوقع لم يخف الكاتب الراحل محمد مستجاب شيئا من معاناته وحياته المضطربة، والتي عضها الفقر بنابه، فيحكي عن أبيه وأمه وأخوته وجيرانه من المسلمين والأقباط، يحكي دون تحفظ من غير أن يجمل صورته مثلما يفعل بعض الأدباء، بعد أن يصلوا إلي مدارج الشهرة وهم يظنون أن ذلك من الوجاهة الاجتماعية وحتي لا تنقص أقدارهم في عيون الناس. فهل يعيب الكاتب المسرحي العالمي آرثر ميلر أنه ظل يعمل بائعا للخبز فترة كبيرة من حياته، أو يعيب عملاق المسرح والشعر وليم شكسبير أنه كان يقوم بربط الخيل أمام المسرح للسادة الأمراء والأغنياء قبل أن يصبح كاتبا عظيما، أو يعيب المفكر الكبير عباس محمود العقاد أنه عمل ملاحظا للأنفار في بداية حياته ولم يتعلم تعليما نظاميا ?!.. لقد استوعب مستجاب هذا الدرس وأيقن أن الصدق لا يتجزأ، وبدايته أن يصدق الإنسان مع نفسه حتي يصدقه الآخرون. وقد مارس مستجاب أعمالا كثيرة : كاتبا عند محامي، عاملا بسيطا في السد العالي، موظفا بسيطا في مجمع اللغة العربية.... أعمالا عاني فيها كاتبنا الكثير والكثير، حياة لم تعرف الاستقرار المادي، حتي استقر به الحال كاتبا وصحفيا متفردا فيما يكتبه، وقد تكون هذه الانكسارات هي التي جعلت صوت إبداعه متميزا، فمن عادة الأشياء المكسورة أن تحدث صوتا دائما وقد كان الكاتب الكبير صبري موسي موفقا حين وصف مستجاب قائلا: " أحيانا يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه - لا تحاول أن تبتعد بالحمامة عن المعني الذي أقصده - ثم يضعها علي كفه ويمر عليها بكفه الأخري فتصبح بيضة، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحبا خلفه ذيله القصير ! هذا الفتي العجوز أو العجوز الفتي الذي ينتمي للصعيد بالمولد ويعتبر بقية أقاليم مصر ضواحي لهذا الصعيد، يخبئ وراء جلبابه التقليدي قلبا طفوليا طيبا جدا لكنه عامر بشقاوة الطفولة وطقوس العرافين والكهنة ومعارف الفلاحين والكتبة من كل أقاليم مصر في بحري وقبلي. في هذه البيئة القاسية وبين هذه العائلات التي تعض بكل انيابها علي عادات وتقاليد راسخة تتسم بالخشونة ولا تعرف المرونة أو التسامح ولا سيما في الأمور المقدسة لديهم كالأخذ بالثأر أو المحافظة علي الشرف، نبت مستجاب مثل عود من أعواد القصب، طويلا شامخا ولكن بقلب بعيد كل البعد عن القسوة وملامحه وإن كان يتماهي بلكنة الصعيد وجلبابه المحافظ مع آبائه وجدوده في ديروط الشريف. لقد سمع ورأي فرحا قليلا وحزنا كثيرا، وخبر وعاني بإحساس الفنان ومشاعر الأديب تلك الأحداث الموغلة في القسوة. وفي قصته (موقعة الجمل ) يصور انتقام أهل القرية من المدعو (الجمل) حين أجمعوا علي قتله هو وزوجته وأبنائه : "وما جت أصوات مفزعة - وكاد الطفلان يعودان رعبا إلي الداخل - حينئذ تحركت بلطة سوداء، تحركت بلطة سوداء صدئة ومارت في الجو، واندفعت في سرعة إلي رأس الطفل. ثم بلطة أخري شرسة، وانشرخ رأس الطفل وسقطت قراعتها، وبلطة ثالثة تلمع - لتتمزق رقبة الطفلة - وارتمت الرقبة - إلي الخلف - بلطة إلي أعلي وبها قماشة الفستان. هذه المشاهد التي يختزنها الكاتب في ذاكرته ووجدانه لا تفارقه أبدا، وإنما ينجو من بعض تأثيرها المزلزل حين يكتبها وكأنه يقوم بعملية تطهير داخلي، لأنه يري الأشياء ويستدعيها بإحساس الطفولة دون تفلسف أو تفسير يفسدها. إنها بكارة الرؤية، لأنه يتعامل مع الأشياء والأحداث وكأنه يراها لأول مرة، وقد أضفي ذلك نوعا من الطزاجة علي معظم ما يكتبه. فأنت تقبض علي الرغيف السخن الذي خرج توا من الفرن، وذلك يجعل إبداع مستجاب متميزا من حيث اللون والطعم والرائحة. عندما سألوا الكاتب المسرحي الفرنسي ( هنري دي مونترلان ) عن سر نجاح مسرحياته هذا النجاح المدوي رد قائلا : - لقد تعودت أن أقول في مسرحياتي وبصوت مرتفع تلك الأسرار التي لا يقولها الناس إلا همسا. وهذا يتطابق إلي حد كبير مع مايفعله مستجاب في كتاباته، إنه يقول ويحكي يقص ويبلور كل ما هو قريب من، يكتب عما يعرف ويشعر به وله مخزون في أعماقه، لكن حين يفعل ذلك لا يتحفظ ولا يتجمل رغم ما في أسلوبه من رشاقة وما في لغته من طزاجة وما في سرده من فنية عالية وتشويق رائع، سواء كان الإبداع قصصيا أو روائيا أو مقاليا. هذه الرحلة الممتدة من ديروط الشريف في أسيوط إلي قلب القاهرة، والمترعة بكل صور المعاناة والألم، امتزجت بروح صاحبها الساخرة المتهكمة، حيث يختلط الضحك بالبكاء والمعاناة بالفكاهة، إنه التنكيت والتبكيت في آن لا تستطيع أن تفصل بينهما، يصف الناقد الكبير ( إبراهيم فتحي ) هذا الضحك الممزوج بالألم فيقول " يبدو الضحك الساخر علاقة جمالية بالواقع، ووسيلة خاصة لرؤيته ولبناء صورة حية للشخصيات ولخلق حبكات مبتكرة واستنبات فروع جديدة إلي الأنواع الأدبية من قصة ورواية " وهذا الضحك لا يجلجل مدويا في صخب يقرع الآذان، ولا يملؤنا فرحا، ولا ينهي توتراتنا من تناقضات الواقع بانفراجة للتنفيث كي يحافظ علي الأوضاع والقيم الراهنة. ومعظم إبداعات محمد مستجاب تعتمد علي هذه الثلاثية المتناغمة وهي : الذكاء والألم والسخرية.ذلك الذكاء الفطري البري المتوحش، الذي يصل في تحليل الأحداث والظواهر إلي جذورها الأولي - إلي بدايات التكوين، يساعده علي ذلك امتلاكه لغة مخترقة وإحساسا عبقريا بكل ما يحيط به، لا يستسلم لمقولات الآخرين، فلديه معمل بسيط التكوين لكنه قادر علي الفحص والدراسة والمقارنة والتحليل والاستنباط، ولا تملك إلا أن تندهش حين يمسك بفراشات الفكر ليطوعها ويبلورها ويفاجئك بها، أما الألم فهو عنصر جوهري في تكوين أديبنا هذا الكاتب المشاكس، كما النار التي تحرق الذهب فتزيده لمعانا وبريقا، الألم الذي يصقل ويهذب ويعلم، ومع ذلك لم يخلق فيه إحساسا بالنقص، بل ولد لديه شعور بالتحدي والمقاومة وهذا ما يجعله لا يفرح كثيرا عندما تأتيه الغنائم، ولا يحزن أبدا لفقدها، فالأهم عنده أن يحيا بكل ما في الكلمة من معني، يستمتع بالمكان والزمان والأحداث، يتأمل الناس والبحار والجبال، ويتذوق الفن والفكر والموسيقي، يعشق الجمال والماء والهواء، يقدس الحب والصداقة والعمل أما السلاح الذي يخفيه وراء ظهره فهو السخرية ؛ فهو يستطيع أن يحول حتي الحاديث العادي إلي مادة صالحة للتهكم والسخرية إنها مقدرة فذة لا يتمتع بها سوي القليل، إن ندرة هذا الأسلوب في أدبنا العربي يجعل من مستجاب فارسا لا يباري في هذا المجال حتي إنه فعل ذلك وهو يقدم لنا (مستجاب الثالث) ومستجاب الرابع، ( وآل مستجاب جميعا ). وقد قال لي الكاتب ذات مرة إن هناك بعضا من أهله قد أشتد بهم الغضب بسبب ما يكتبه عنهم في قصصه ورواياته التي تفصح عن كل شيء من أول العنوان. فقد جعل الكاتب من قيام وانهيار آل مستجاب قياما وانهيارا للكون الفني والعالم الواقعي سواء بسواء في أدق مظاهره وأهم عناصره.