اختار أن يقضي آخر سنوات عمره بين صفحات الكتب وورقات الشجر، عندما عزل نفسه ب"برقاش" بعيدًا عن ضجيج الحياة وصخبها من حوله. 25 فدان مساحة قصره ب"برقاش"، 7 تضم مكتبته ومنزل ريفي لأحفاده وآخر لزواره.. 55 لوحة جدارية تجدها معلقة بكل حوائط منزله للفنانين: راغب عياد مروراً بالجزار، الرزاز، صلاح الطاهر، تحية حليم، كنعان، وغيرهم. مكتبتان إحداهما تحمل في طياتها أمورا هامة منها كتاب وصف مصر في عام 1807-1808، أهداه نابليون للإمبراطور وقتها، وطبع منه 800 نسخة فقط. تضم المكتبة 24 مجلدا مكتوبا وآخر برقم 25 يحمل خرائطا وصور .. ولحسن الحظ، ألًقيت جميعها في المصرف بعد حادث السرقة الشهير، وعثر عليهم فيما بعد. من أهم ما تحمله المكتبة في طياتها أيضًا خطابات ال"لورد كرومر" التي كتبها بنفسه وهي مجموعة من 42 خطاب كتبها بنفسه لأهله عن مصر وعندما مات ألت إلى ذويه فأعتبرها ملكية خاصة وقام بعرضها في مزاد وحصل عليها "هيكل". قال "هيكل" إنه عرف "الشجن" بسبب حريق مكتبته، الأمر الذي اضطره إلى أن اعتذر مرات عديدة عن تصوير المكتبة بعد الحادث، مؤكدًا أن المتهم الحقيقي وراء الحريق هم جماعة الإخوان الإرهابية، مشيرًا إلى أن الأمر بالحريق صدر من "رابعة". "وهنا فإنني رجوت زملاءنا أن يكون كلامهم تحريرًا وتصويرًا في الموضوع داخل حدود تصون مكانا احتضن حياتي وحياة أسرتي، واتسع لوقائع ولرجال ظهروا على ساحة الإقليم والعالم، وتركوا هناك ظلا من تاريخ سياسي وثقافي ومع ذلك فانحنى أقبل بك شاهد عيان يرى الحقيقة بعين العقل والقلب، دون أن يعتمد على ما هو منشور هنا وهناك". "هيكل" استقبل في بيته الريفي ب"برقاش" أسماء لامعة في السياسة والثقافة والفن المحلية، الإقليمية، والدولية، تعبر جميعها عن عصر بأكمله في الحياة المصرية والعربية يعد هيكل ذاته من نجومه الكبار. كان الأستاذ يصطفي زواره، وكان أقربهم إلى قلبه يدعوه إلى ظل شجرة المانجو – بحديقة الفيلا – لتجاذب الحديث بينهما، وأشهرهم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. أعلن "هيكل" رغبته في أن يدفن بمقبرة خاصة ملحقة بقصره في برقاش حتى لا يثقل على كاهل أبنائه (حسب الكاتب الصحفي عبدالله السناوي). تربعه على عرش الصحافة المصرية، وطاقته التي لا تنتهي، جعلته من أهم الشخصيات البارزة في مصر، والتي يفخر كل من تعرف عليه بالتقرب منه، إنه الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل الذي وافته المنية منذ قليل عن عمر يناهز 92 عامًا. لم تكن حياة "هيكل" قاصرة على المشاهير فقط، بل امتدت لتصل إلى الرؤساء ورموز الدولة البارزين. وكان محمد حسنين هيكل – مواليد 23 سبتمبر 1923 – كاتب ومحلل سياسي مصري، وأحد أبرز الصحفيين العرب والمصريين في القرن العشرين، ومن الصحفيين العرب القلائل الذين شاركوا في صياغة السياسة العربية. تلقى تعليمه بمراحله المتصلة في مصر، وكان اتجاهه مبكراً إلى دراسة وممارسة الصحافة, في عام 1943م التحق بجريدة "الإيجبشيان جازيت" كمحرر تحت التمرين في قسم الحوادث، ثم في القسم البرلماني. وتزوج "هيكل" من السيدة "هدايت علوي تيمور" في يناير 1955م، ولديهم ثلاثة أولاد هما: "علي" طبيب أمراض باطنية وروماتيزم في جامعة القاهرة، و"أحمد" رئيس مجلس إدارة شركة القلعة للاستثمارات المالية، و"حسن" رئيس مجلس الإدارة المشارك والرئيس التنفيذي للمجموعة المالية "هيرميس". اختير من رئيس تحرير "الإيجيبشيان جازيت"، للمشاركة في تغطية بعض معارك الحرب العالمية الثانية في مراحلها المتأخرة برؤية مصرية, ثم تم تعينه عام 1945م كمحرر بمجلة آخر ساعة. انتقل بعد ذلك إلى جريدة أخبار اليوم عندما انتقلت ملكية "آخر ساعة" إليها، خلال الفترة "1946م -1950م". عمل كمراسل متجول لأخبار اليوم، ثم استقر في مصر عام 1951م، متوليًا منصب رئيس تحرير "آخر ساعة" ومدير تحرير "أخبار اليوم" واتصل عن قرب بمجريات السياسة المصرية. 1956م.. اعتذر "هيكل" في المرة الأولى عن مجلس إدارة ورئاسة تحرير الأهرام، إلا أنه قبل في المرة الثانية وظل رئيساً لتحرير الأهرام لمده 17 عاماً، وبدأ عام 1957م في كتابة عموده الأسبوعي بالأهرام تحت عنوان "بصراحة"، والذي انتظم في كتابته حتى عام 1994م. ساهم الأسطورة "هيكل" في تطوير جريدة "الأهرام"، ليعطيها بريق مختلف وتصبح واحدة من الصحف العشرة الأولى في العالم, وأنشأ مجموعة المراكز المتخصصة للأهرام ومركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، بالإضافة إلي مركز الدراسات الصحفية ومركز توثيق تاريخ مصر المعاصر. وكان له العديد من الجهود الأخرى، فشارك في الحياة السياسية حيث تولي منصب وزير الإرشاد القومي عام 1970م، وذلك تقديراً لظرف سياسي وعسكري استثنائي بسبب حرب الاستنزاف بعد أن تكرر اعتذاره عنه عدة مرات. وربما قوة وفصاحة "هيكل" كانت دافعًا كبيرًا لسعي كبار الدولة للتقرب منه والاستفادة من خبراته وآرائه الغير محدودة. وواجه الكثير من الانتقادات بسبب علاقته مع الرؤساء، على الرغم من أنها لم تستمر على وتيرة واحدة، فكانت علاقة هيكل بمحمد نجيب متوترة بسبب آراء هيكل بأنه "نجيب" لا يصلح للاستمرار في رئاسة مصر، وأصبحت العلاقة قوية جدًا مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فيما تحولت لعداوة مع الراحل محمد أنور السادات بعد الخلاف حول التعامل مع النتائج السياسية لحرب أكتوبر حتى وصل الأمر إلي حد اعتقاله ضمن اعتقالات سبتمبر 1981م. وعادت المياه إلى مجاريها عهد محمد حسني مبارك، حتى تسببت المحاضرة التى ألقاها هيكل فى الجامعة الأمريكية، عام 2002، في توتر العلاقة بين هيكل والرئيس الأسبق مبارك، حيث قال: "السلطة شاخت فى مواقعها، وهناك مخطط واضح لتوريث الحكم، ومهما كانت الصورة حلوة، فلابد أن نقول كفاية". ولم يبالي "هيكل" بكل ما أشيع وقيل في حقه، بل اكتفى بأن يقل: "إما أن تضيِّع عمرك فى الدفاع عن نفسك، وإما أن تغمض عينيك وأذنيك عما يفعله الآخرون ضدك.. وتتفرغ لعملك.. وكانت نتيجة هذه الفلسفة آلاف المقالات وعشرات الكتب واسم له بريق فى العالم". ويُعد أحد ظواهر الثقافة العربية في القرن العشرين، ومؤرخًا للتاريخ العربي الحديث وخاصةً تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي, ولديه تحقيقات ومقالات للعديد من صحف العالم. ونشر على مدار حياته أحد عشر كتاباً في مجال النشر الدولي ما بين 25- 30 لغة تمتد من اليابانية إلى الأسبانية، من أبرزها "خريف الغضب" و"عودة آية الله" و"الطريق إلى رمضان" و"أوهام القوة والنصر" و"أبو الهول والقوميسير". وكان له 28 كتاباً باللغة العربية من أهمها "مجموعة حرب الثلاثين سنة" و"المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل". وتوفي الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، عن عمر يناهز ال92 عاماً، بعد صراع مع المرض خلال الفترة الأخيرة. في وداع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تعيد "بوابة أخبار اليوم" أشهر 10 مقولات مأثورة للأستاذ، سواء تلك التي كتبها في مؤلفاته أو التي جاءت في مقالاته في بلاط صاحبة الجلالة. "الحقيقة غالية، ذلك لأنه لا شئ في معترك الحياة يتحول إلى حقيقة ثابتة إلا بعد التجربة،و عندما تقع التجربة فإن ثمنها يكون قد دفع بالكامل"، تلك الكلمات كانت نتاج رحلة بحث طويلة عن الحقيقة بين نيران الحروب فاستمد صاحبها حكمته مما عاصرهن وتعرض له على "خط النار"، وهو في العشرين من عمره، إنه الأستاذ والمفكر والمؤرخ والمراسل الحربي "محمد حسنين هيكل". كُلف الراحل "محمد حسنين هيكل" بتغطية بعض معارك الحرب العالمية الثانية، حيث كان مساعدًا للمراسل الحربي بجريدة " إيجيبشان جازيت"، وذلك في معركة العالمين، ومن ثم أزدادت خبرته الصحفية، وازدادت ثقة رؤساءه به فأرسلوه إلى أوروبا لتغطية بداية تحرير الدول التي كانت تحت الاحتلال الألماني، وحصل على فرص كبيرة وكثيرة، ورأى أوروبا تتحرر، رأى باريس المحررة، وكل هذا تطلب إعداداً شاقاً للنفس، لكي يقوم بمهامه على المستوى المطلوب، وهذا الإعداد كان بالأساس ثقافياً. وعمل بمجلة أخر ساعة ثم جريدة الأخبار وأصبح مراسلًا حربيًا لها في "حرب فلسطين" عام 1948، حيث كان المراسل الحربي الوحيد في تلك الحرب وكانت هي المعركة الأشد قسوة والأكثر تأثيرًا في حياة هيكل حيث قال عنها : "لقد عشت حرب فلسطين.. قبل أن تبدأ هذه الحرب رسميا، عشت هذه الحرب ذات يوم من أيام شهر مارس سنة 1948، وكنت قد حملت حقائبي وذهبت اليها أبحث عن الحقيقة، حيث كتب في مقدمة التحقيق الصحفي الأول من أورشليم –القدس– "إن الحقيقة تتوه في طوفان البرقيات والإشاعات والخطب والإذاعات، ولا يعرفها إلا من يحاول البحث عنها تحت الانقاض وعلى ألسنة اللهب، وفي السهول التي تتناثر عليها جثث القتلى، ويبلل الدم فيها زهور البرتقال!، ولم تكن تلك كل الحقيقة فالجزء الأكبر والأهم من هذه الحقيقة كان بعيدا عن أرض فلسطين كلها، وكان مسرحه مكاتب أنيقة ناعمة معطرة، متناثرة ما بين القاهرة وغيرها من عواصم الدول العربية، وبين لندن وواشنطن ونيويورك.. وتل أبيب" ورغم الهزيمة والدماء إلا ان هيكل نجح صحفيا بتغطيته لاحداث الحرب، وحصل على أول علاوة بلغت عشر جنيهات. ومن تلك الحرب الدامية اشتد عزم هيكل، وقام بتغطية حروب ومعارك متعددة مابين انقلابات عسكرية في سوريا وحرب أهلية في اليونان، وحرب كوريا، ثم حرب الهند الصينية الأولى، ووصف هيكل الحرب بأنها قمة المأساة الإنسانية على مستوى الشعوب والأمم، وتولدت لديه ميزة تحليل الدبلوماسية، والعلاقات الدولية والاستراتيجيات العسكرية. واستفاد الأستاذ من تلك الحروب من الناحية الفكرية، حيث تعرف على العديد من الزوايا المختلفة التي مهما وصفت لك كقارئ لن تصلك إلا إذا عشتها بنفسك، وتعلم قبل أن يذهب للحرب أن يدرسها جيدا، فيرى ان المراسل الحربي عندما يذهب للحرب لن يواجه الحرب فقط، فالحرب تحتاج إلى أن تجيد قراءتها، فكيف تقرأها وأنت غريب عنها، وتغيب عنك المعلومات الأساسية عن أطرافها وعن الأسباب التي أدت إليها. وكانت أشهر كلماته عن الحرب " في الحروب وقبل أن تتعرض للمخاطر عليك أن ترى ملامح المشهد بشكل كلي؛ لأنك لو تعاملت مع الحرب على أنها مجرد "عركة" فسوف تخطئ خطأ فادحاً، فالحرب ليست مجرد نيران ومدافع، ولكن الأهم هو ما الذي يحدث خلف هذه النيران". أعطى المفكر والمؤرخ والكاتب الصحفي الكبير الراحل " محمد حسنين هيكل"، للأدب حقه على صفحات جريدة الأهرام عقب توليه رئاستها في 1957، واستكتب كبار الكتاب وحرص على نشر رواياتهم مسلسلة على صفحات الأهرام. وأوجد بذلك مكانًا مرموقًا داخل صحيفته للأدب وسط محيط السياسة في الأهرام، مراعيًا أن يكون الأدب مكون أساسي على صفحاتها، ومن أبرز الكتاب الكبار الذي ساهم "هيكل" في منحه فرصة الوصول السريع للقراء، كان "أمير الرواية العربية"، "نجيب محفوظ"، حيث نشر له روايته "أولاد حارتنا" وأعطى له الفرصة بأن يصبح جمهوره أكبر بكثير من جمهور الكتاب الروائي حيث كانت الرواية الوحيدة التي تنشر يوميًا بجريدة الأهرام. ولم تتوقف رعاية هيكل للأدب عند ذلك الحد ولكنه دافع باستماته عما تعرض له محفوظ عقب نشر روايته بالأهرام، والمطالبة بوقف نشرها، عندما تدخل البعض ووشى بأن الرواية فيها شيء من التجديف ، وطالبوا بوقف نشرها ، وتدخل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر شخصيا للاستمرار في نشرها ، ولكن بعد اكتمالها في الأهرام اجتمعت لجنة من وزارة الأوقاف ، ضمت الشيخين محمد الغزالي والشيخ سيد سابق ، وأقرت هذه اللجنة منع الرواية من النشر ، مع العلم أن الوزارة ليس لها علاقة بمصادرة الأعمال الفنية أو إقرارها ، ولكن فزّاعة الفهم الخاطئ للأشياء هي التي جعلت الرواية رجسا من عمل الشيطان ، وظل هذا الرجس يطاد نجيب محفوظ ، حتى بعد حصوله على جائزة نوبل ، وهجوم أحد الإرهابيين عليه. ثم توالت الأسماء الادبية الكبيرة في النشر بالأهرام مؤكدة ان هيكل كان مظلة الأدباء، حيث نشر بالأهرام " يوسف إدريس، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، وثروت اباظة، لويس عوض، لطفي الخولي، عائشة عبد الرحمن، حسين فوزي" . وبهذا المجهود ساهم هيكل في نقلة نوعية كبيرة لجريدة الأهرام بتحقيقه نجاحًا مذهلًا، جعلها من ضمن أفضل 10 صحف في العالم، حتى أن باعة الصحف كانوا يصفونها ب"أهرام هيكل"، وارتفع توزيعها من 60 ألف نسخة إلى 350 ألف، وعدد الجمعة وصل توزيعه إلى 750 ألف نسخة.