بدا محراب المسجد خاوياً تغمره ظلمة موحشة تقبض القلوب .. لم يفاجئ الموت علي ، الرجل عايش الموت وخاض غماره طوال عمره مع النبي .. كان يتوقعه .. بل يترقبه .. في النهاية يرتجيه .. يلخص كل ذلك في كلمتين : الرحيل وشيك . إيقاع الكلمتين لكأنهما سهم يخطف القلوب.. عاش علي غريباً في عصره .. لم تكن غربته غربة أوطان .. بل غياب الخلان أوجعه .. انه يحنّ إليهم يتمنى لقياهم .. يقول صادقاً : فقد الأحبّة غُربة .. عاش علي يحارب الشرور .. خبير بمحاربتها .. يعرف أن معركته في أعماق النفس الإنسانية .. لهذا تراه يقول : احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعة من صدرك .. المجد كُل المجد لمن وعى كلمات علي .. فوهب لنفسه وعقله وقلبه الحرّية . فهم لواقع البشرية .. يصاحبه إيماناً راسخ بخالق البرية .. ينظر علي إلى السماء فتمتليء روحه إجلالاً للواحد القهّار فيقول : كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مِثْله ؟ يلتفت علي لولد وأهله وأصحابه المتحلقين حول سريره وقد أوشك على الرحيل فيقول : أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة لكم ؛ وغداً مفارقكم .. قضي الأمر وانتهى كل شيء .. علي يستعد للقاء الأحبة .. محمداً وصحبه . أجرى الطبيب فحوصاته .. انقبضت أساريره .. تمتم للحضور : استشرى السم .. أمير المؤمنين يموت .. يغادر الدنيا .. رمق علي ولديه يبكيان .. سبطي محمد وريحانتيه من الدنيا فيقول: أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله .. ونظم أمركم .. وصلاح ذات بينكم .. فأني سمعت جدّكما صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة الصيام. ثم يتدفق النبع الإنساني الذي يبني الأمم حتي في لحظات الوداع : الله .. الله في الأيتام لا يضيعوا بحضرتكم .. الله الله في جيرانكم ، فإنهم وصيّة نبيكم مازال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورّثهم .. الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم .. الله الله في الصلاة فأنها عمود دينكم. الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فانّه إن ترك لم تناظروا. الله والله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والسنتكم في سبيل الله .. عليكم بالتواصل والتباذل .. إياكم والتدابر والتقاطع ... لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم .. ثم تدعون فلا يستجاب لكم ... يوجه الإمام خطابه إلى قرابته من بني عبد المطلب حتى لا يصنعوا من ثيابه المخضبة بدم الشهادة قميصاً آخر فيقول : يا بني عبد المطلب لا ألفينّكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون : قتل أمير المؤمنين .. ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. وتحمله الخشية أن تتحول دمائه لبحور من دماء يخوض فيه المسلمون فيقرر بكلمات صارمة إغلاق ملف القضية إلى الأبد فيقول : انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه ، فاضربوه ضربة بضربة .. ولا تمثلوا بالرجل .. فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.. ويبشّر الإمام بعواصف الزمهرير القادمة ، ويرفع العناء عن أحبابه وهو يعلم ما سيلاقونه في حبه بعده فيقول : ألا وانّه سيأمركم بسبّي والبراءة مِنّي ، فأمّا السبّ فسبّوني فانه لي زكاة ، ولكم نجاة ، وأما البراءةُ فلا تتبرّأوا مني ، فاني ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة . ويشعر الحضور بالرهبة ، وقد انكشفت أمامهم صفحات من الغد القادم .. فيقول احدهم وكان كلبيّاً : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فيبتسم علي ابتسامة واهنة ويقول : يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، إنما هو تعلّمن ذي علم ، وإنما علم الغيب علم الساعة ، وما عدد الله سبحانه بقوله : إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت .. فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً أو في الجنان للنبيين مرافقاً .. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه احد ألا الله .. وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ؛ ودعا لي بأن يعيه صدري وتضمّ عليه جوانحي . ما لبثت روح فارس الإسلام إلا أن صعدت إلي بارئها في شوق لجوار الحبيب محمد وبنته الحبيبة الزهراء .. مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته. .. مات والصلاة بين شفتيه...مات وفي قلبه شوق إلى ربه ..ولم يعرف حتي أصحابه حقيقة مقامه ومقداره، إلا قليلاً ممن منحهم الله نعمة العقل ومنحة التمييز فجعلهم يدركون الفارق بين الجوهر والحصى.. عرجت روح ربيب النبي العدنان بعد أن أضاء بعلمه الدنيا حيناً من الدهر ، ليبدأ زمناً حذر منه الحبيب من قبل .. وهنا يضحك إبليس ضحكة تملأ الدنيا عواءً كالذئاب .. وداعاً يا سيدي وإمامي ، يا من قال فيك الحبيب المصطفي : يا علي أنت سيد في الدنيا ، سيد في الآخرة ، حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله ، والويل لمن أبغضك بعدي .. مضي علي بن أبي طالب صادق العهد مع ربه ، لم يحد طرفة عين عما جاء به أبن عمه من الحق .. وقد كلفه ذلك الكثير الكثير ، وجعله خالداً إلي قيام الساعة .. وكان تجسيداً للآية الكريمة : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيل .. صدق الله العظيم . تمت