أطل رمضان علي الدنيا ، الكوفة تستقبل الشهر الكريم بقلب منقبض ؛ أنفاس غريبة تجوس خلال الديار .. تشم منها رائحة الغدر . صام الإمام علي وقد تهيأت نفسه لرحلته إلى الملكوت .. ها هو علي يرتقي منبر الكوفة بخطوات واهنة ، يرتدي قميصاً ابيض .. كأنه يتأهب لمعالجة كفنه ؛ جبينه يتألق نوراً من اثر السجود .. يعظ الناس ويذكرهم بالرحيل عن الدنيا الفانية وهو علي مسافة أيام منه فيقول : أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرِّياش ، وأسبغ عليكم المعاش ؛ فلو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً أو لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك سليمان بن داوود عليه السلام ؛ الذي سخّر له ملك الجن والأنس مع النبوّة وعظيم الزلفة ، فلما استوفى طُعمته واستكمل مُدّته ، رمته قِسيُّ الفناء بنبال الموت وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطلة ، وورثها قوم آخرون وأن لكم في القرون السالفة لعبرة ! .. ثم ينطلق إمام المتقين ليتساءل عن مصير حضارات سادت ثم بادت ، وعزت ثم ذلت ، فيقول : أين العمالقة وأبناء العمالقة ؟! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ؟ أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين ، واطفؤوا سنن المرسلين ، واحيوا سنن الجبّارين ؟! .. أين الذين ماروا بالجيوش وهزموا بالألوف وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن ؟ .ألا انه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً ، واقبل منها ما كان مدبراً ، وأزمع الترحال عباد الله .. ثم يجيل الإمام بصره هنا وهناك يبحث عن إخوان له طووا معه الطريق إلى الحق : أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة وأُبْرزو برؤوسهم إلى الفجرة ؟ وهنا يصل الإمام إلى ذروة التأثر ، فيضرب على لحيته الكريمة .. ويستغرق في البكاء .. بكاء حار من أجل كل الذين رحلوا وجباههم إلى الشمس فتنبعث من أعماق قلبه الكسير آهة وزفرات : أوِّه على إخواني الذين تلوا القرآن فاحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه .. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة .. دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتبعوه .. تمضي أيام رمضان .. أصحاب علي يحسون أن هناك خطب جلل في الطريق .. غابت شمس الخميس 18 رمضان 40 ه سريعاً.. نسائم باردة تهبّ من ناحية الشمال تبشر بليالي الزمهرير الطويلة ؛ الأفق الغربي شاحباً كئيب كأنه يعلن عن غدٍ غائم . السحر ظُلمات بعضها فوق بعض .. النجوم تشتد سطوعاً في سماء غارقة في الليل .. يأتوا له بالطعام ليفطر .. يتناول ثلاث تمرات ويقول : إنما هي ليال قلائل ، وأحب أن يأتي أمر الله وأنا خميص .. يجلس الإمام في محرابه .. يناجي ربه .. يتهيأ للقاء ، يستعد ليلج عالماً الملكوت .. يتدفق شلال من الشوق للحبيب محمد في قلبه .. اشتاق الكرار لابتسامة آخر الأنبياء .. حبيب الله .. تغفو عين بطل الإسلام .. تسرع نفسه للقاء سيد الأنبياء ، يشكو إليه ويلات الأرض .. يقول علي : يا رسول الله : ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد. يستفيق علي وهو يتضرّع إلى السماء يشكوها ظلم الأمّة وقعودها عن نصرته ؛ يقول بزفرات حامية : اللهم أبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً لهم مني . علي يغالبه الهم بين فريقين أحدهما يكفّره ، وآخر يعبد . خرج ربيب النبي وتطلع إلى السماء الزاخرة بالنجوم .. الفضاء مشحون بشيء عجيب .. لكأن السماء تمس الأرض ، أو أن الأرض تتعلق بالسماء .. هتف علي والناس نيام :إنها الليلة التي وعدت فيها ! والله ما كذبت ولا كُذبت .. الظلمة تتكاثف الفجر ما يزال يجاهد ليمزق حجب الظلام .. وعلي يتخطى باحة المنزل وقد ولّى وجهه شطر المسجد .. صاح في وجهه الأوزّ ..كأنه يطلق استغاثة أو يحذّر من المجهول ؛ تبسم علي وتمتم : صوائح تتبعها نوائح .. ومضى علي يشق طريقه في ظلمة الفجر .. أزفت لحظة الرحيل .. هناك في زاوية من المسجد إبليس يرقد يرتقب يحمل سيف مسموم .. سيف يشبه ثعباناً منتفخاً بالسم ..هتف أمير المؤمنين ليوقظ النيام : الصلاة ! الصلاة ! عباد الله .. تنبه إبليس .. تلوّى .. ظهر صوته يشبه فحيح الأفاعي .. صوت إبليس وهو يستعد للانقضاض .. صفير موحش ، لحن مخيف .. تهيأ بسيف جبان يهوي باتجاه وجه ما سجد لغير الله سجدة واحدة .. علي الفور تفجرت الآلام من فارس الإسلام .. هوي النجم في محرابه وهو يهتف وقد غمرت وجهه ولحيته الدماء :فزتُ وربّ الكعبة .. أظلمت الأرض وهبت علي أمة الإسلام عاصفة الزمهرير .. حمل المسلمون إمامهم إلي منزله .. جسد البطل يذوب وروحه تتأهب للرحيل .. بدا محراب المسجد خاوياً تغمره ظلمة موحشة تقبض القلوب .. لم يفاجئ الموت علي وهو قد عاش في غماره عمره مع النبي .. كان يتوقعه .. يترقبه .. في النهاية يرتجيه .. يلخص كل ذلك في كلمتين: الرحيل وشيك . إيقاع الكلمتين لكأنهما سهم يخطف القلوب.. عاش علي غريباً في عصره .. لم تكن غربته غربة أوطان .. بل غياب الخلان أوجعه.. انه يحنّ إليهم يتمنى لقياهم .. يقول : فقد الأحبّة غربة .. عاش علي يحارب الشرور .. خبير بمحاربتها .. يعرف أن معركته في أعماق النفس الإنسانية .. لهذا تراه يقول : احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعة من صدرك .. المجد كُل المجد لمن وعى كلمات علي .. فوهب لنفسه وعقله وقلبه الحرّية . فهم لواقع البشرية .. يصاحبه إيماناً راسخ بخالق البرية .. ينظر علي إلى السماء فتمتليء روحه إجلالاً للواحد القهّار فيقول : كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مِثْله ؟ يلتفت علي لولد وأهله وأصحابه المتحلقين حول سريره وقد أوشك على الرحيل فيقول : أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة لكم ؛ وغداً مفارقكم .. قضي الأمر وانتهى كل شيء .. علي يستعد للقاء الأحبة .. محمداً وصحبه . أجرى الطبيب فحوصاته .. انقبضت أساريره .. تمتم للحضور: استشرى السم .. أمير المؤمنين يموت .. يغادر الدنيا .. رمق علي ولديه يبكيان .. سبطي محمد وريحانتيه من الدنيا فيقول: أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله .. ونظم أمركم .. وصلاح ذات بينكم .. فأني سمعت جدّكما صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : « صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة الصيام. ثم يتدفق النبع الإنساني الذي يبني الأمم : الله .. الله في الأيتام لا يضيعوا بحضرتكم .. والله الله في جيرانكم .. فإنهم وصيّة نبيكم مازال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورّثهم .. الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم .. الله الله في الصلاة فأنها عمود دينكم. الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فانّه إن ترك لم تناظروا. الله والله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والسنتكم في سبيل الله .. عليكم بالتواصل والتباذل .. إياكم والتدابر والتقاطع ... لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم .. ثم تدعون فلا يستجاب لكم ... وهنا يوجه الإمام خطابه إلى قرابته من بني عبد المطلب حتى لا يصنعوا من ثيابه المخضبة بدم الشهادة قميصاً آخر فيقول : يا بني عبد المطلب لا ألفينّكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون : قتل أمير المؤمنين .. ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. وتحمله الخشية أن تتحول دمائه لبحور من دماء يخوض فيه المسلمون فيقرر بكلمات صارمة إغلاق ملف القضية إلى الأبد فيقول : انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه ، فاضربوه ضربة بضربة .. ولا تمثلوا بالرجل .. فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور .. ويبشّر الإمام بعواصف الزمهرير القادمة ، ويرفع العناء عن أحبابه وهو يعلم ما سيلاقونه بعده فيقول : ألا وانّه سيأمركم بسبّي والبراءة مِنّي ، فأمّا السبّ فسبّوني فانه لي زكاة ، ولكم نجاة ، وأما البراءةُ فلا تتبرّأوا مني ، فاني ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة . ويشعر الحضور بالرهبة ، وقد انكشفت أمامهم صفحات من الغد القادم .. فيقول احدهم وكان كلبيّاً : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فيبتسم علي ابتسامة واهنة ويقول : يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، إنما هو تعلّمن ذي علم ، وإنما علم الغيب علم الساعة ، وما عدد الله سبحانه بقوله : « إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت ..» .. فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً أو في الجنان للنبيين مرافقاً .. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه احد ألا الله .. وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ؛ ودعا لي بأن يعيه صدري وتضمّ عليه جوانحي . وفي تلك الليلة عرجت روح ربيب النبي العدنان بعد أن أضاء بعلمه الدنيا حيناً من الدهر ليبدأ زمناً حذر منه الحبيب من قبل .. وهنا يضحك إبليس ضحكة تملأ الدنيا عواءً كالذئاب ..