ممدوح الشيخ : العلمانية أصل الإرهاب .. وعقل المسيري أرشده لله بلال علاء : المسيري يراوغ في مفاهيم العلمانية وحرية التعبير! حول الهوية المتأرجحة للمسيري بين الإسلامية والإنسانية، ورؤية الإسلاميين لهذا المفكر الراحل الذي يعد حالة فريدة في نقد الحداثة الغربية وتشريح الظاهرة الصهيونية والدفاع عن القضايا الوطنية ، دارت الجلسة الثالثة من مؤتمر نظمته مكتبة الإسكندرية ببيت السناري واختتم مساء أمس الأول. وأكد الباحث المصري ممدوح الشيخ أنه تعرف إلى المسيري منذ بداية التسعينات، وكان لا يزال في طور المراجعات الفكرية؛ فقد عرف كماركسي انتمى للحزب الشيوعي المصري قبل سفره للحصول على الدكتوراة من جامعة رتجرز بأمريكا في الستينات وبعد مناقشة دارت بينه وبين فتاة يهودية تحدثت عن رؤية اليهود لأنفسهم وللكيان الصهيوني، كان الأخير قد عزم على التبحر في هذا الأمر إلى جانب أبحاثه الأكاديمية في الأدب الإنجليزي، وصار ذلك أهم ما أنجزه فيما بعد في موسوعتي اليهود والصهيونية . لكن ماركسية المسيري كانت مختلفة، وهي ما سيصفها فيما بعد بأنها كانت "على سنة الله ورسوله" وقد جاءت كردة عكسية بعد انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين قبل ثورة يوليو ثم انضمامه لهيئة التحرير التي دشنها الضباط الأحرار ، ووقتها كان قد ترجم أهم أعمال ماوتسي تونغ عن التناقض . و"الشيخ" صاحب كتاب "المسيري .. من المادية إلى الإنسانية الإسلامية" وقد أشار له المسيري عن أنه اكتشف خلال إقامته بأمريكا أن أصدقاءه المقربين كانوا من الكاثوليكيين أو اليهود، رغم أنه كان قد تعلم في الدروس الماركسية أن الدين ما هو إلا أفيون الشعوب، وأنه جزء من بناء فوقي يمكن رده للبناء التحتي الاقتصادي أو الاجتماعي، وأنه لا يصلح أساسا للتصنيف والإدراك، ولم يكن يعرف سر انجذابه لأشخاص من خلال المكون الديني. يتابع الشيخ : اكتشف المسيري – كما روى لي لاحقا – أن الدين جزء أساسي من الكيان والهوية، وأنه جزء فعالا في الحياة الواقعية المادية وليس شيئا مغلقا من عالم الغيب. ومن وجهة نظر ممدوح الشيخ فإن المسيري ينتمي لتيار كبير من رموز اليسار المصريين الذين تحولوا للفكرة الإسلامية وإن احتفظوا بفرادتهم الفكرية واستقلاليتهم في تفسير الدين، وربما يعود ذلك إلى أنهم لم يكونوا يدخلون للماركسية من باب رفض الدين وكانوا مع وجودهم فيها يشعرون بالحنين للمرافيء الروحية الصوفية بالإسلام، كما عبر المستشار طارق البشري على سبيل المثال والدكتور المسيري وغيرهما. المسيري ظل وفيا لالتزامه بالشعائر الإسلامية، وقد شاهد المحاضر كيف كان يصر على الصوم رغم اعتلال صحته في سنواته الأخيرة . وفي هذا الخصوص يؤكد الباحث ممدوح الشيخ أن المسيري اقترب من إنسانية الإسلام، فلم يحوله دينا متشددا كما فعل البعض حين أغلقوا باب الاجتهاد وحولوا كثير من المتغيرات لثوابت، ولم يفرط في الوقت نفسه بالشعائر والعقائد التي يقوم عليها الدين ودافع عنها دفاعا مستميتا في وجه التيار العلماني المتطرف. تناول "الشيخ" كتابه الأخير "العلمانية أصل الإرهاب" وفيه يسير على نهج معلمه المسيري الذي واجه خصومه بالوثائق وليس بالسجالات المطولة عديمة الجدوى، وقد عثر الأول على اعترافات ضابط فرنسي شارك في مذبحة "فاندييه" الشهيرة خلال الثورة الفرنسية والتي ينظر لها علمانيو العالم العربي باعتبارها المؤسس الحقيقي للدولة الحديثة العلمانية التي ينشدونها، وهم يغضون النظر متعمدين عن مئات المراجعات الغربية للفكرة العلمانية والتي تستشهد بالعنف الذي تخلل سنوات هيمنتها. لكن محمد عرفة، مدير الندوة، اعتبر من جهته أن العنف ليس مرتبطا بالحالة الإسلامية ولا العلمانية وإنما بنظرة طوباوية لدى بعض المنتمين لأفكار بعينها تريد تغيير المجتمع نحو الشكل الذي يرونه مثاليا وما يستلزم ذلك من التخلص من أعداء فكرتهم بأي ثمن ، وللتدليل على ذلك فقد سبقت مذبحة فاندييه مذبحة أخرى شهيرة بين الكاثوليك والبروتستانت بفرنسا، لأسباب دينية، واضطر آلاف المنتمين للمذهب الجديد للفرار بأنفسهم نحو ألمانيا وغيرها. وحول قضية المصطلحات، أكد الباحث ممدوح الشيخ خلال ورقته أن المسيري نبهه للمساحة الخطيرة من تحريف المصطلحات وهي لعبة أجادها اليساريون العرب ، وذلك حين يمارسون العنف عبر مساحة التغيير في الأسماء، أما بخصوص قضية الانحياز فقد رأى المسيري أن الكيان البشري لديه انحيازاته المسبقة خاصة إذا ما كان حديثنا عن العلوم الفكرية والاجتماعية وليس الطبيعية التي يمكن أن ندعي فيها قدرا لا بأس به من الصرامة والحياد . ويعد باروخ اسبينوزا أحد أشهر الفلاسفة اليهود المضطهدين الذين تناولهم المسيري في موسوعته ، وقد ترجم له "رسالة في اللاهوت والسياسة" وحين عاد المسيري من الكويت، كانت مصر تشهد أوج الصراع بين الإسلاميين والسلطة ، وكانت قضايا عديدة تثار كانتهاك رواية أو فيلم للمقدسات وغيرها، وكان المسيري يرى أنه سابق لأوانه أن ينخرط في العمل السياسي في هذا الوقت حتى إنجاز موسوعته، لكنه ظل مع ذلك مهموما بالقضايا السياسية وقضية الإسلام السياسي بينها والتي كانت ستشهد أطروحات مغايرة لو أمد الله في عمره . كما يلفت الشيخ لنماذج محددة تبين جهود المسيري لنشر فهم أفضل للإسلام ، ومن ذلك تبنيه لإحياء ذكرى رحيل المناضل خالد الحسن، رغم ضغوط من منظمة فتح لعرقلة ذلك حيث كان هو القيادي الوحيد المنتمي لمرجعية إسلامية ، وكان عادل حسين أمين حزب العمل آنذاك يقول لممدوح الشيخ حين أوكله بتنظيم الاحتفالية "هي معركة أيديولوجية بامتياز" ، كما كان المسيري يحتفي بكتابات مثل "الإسلام بين الشرق والغرب" لبيجوفيتش في محاولة لتأسيس حالة إسلامية حداثية لكنها غير علمانية . من جهة أخرى، يتذكر الشيخ كيف كان المسيري حريصا على تحري الشرع والأحكام في كل آرائه وكان حين يلتبس عليه أمر يسأل علماء الأزهر ويعمل فكره أيضا ولا يذعن للمقولات دون مناقشة. من جانب آخر، يذكّر "الشيخ" بكفاح المسيري في حركة كفاية التي كان أحد مؤسسيها وفي حزب "الوسط" وغيرها من الحركات المناهضة لفساد سلطة مبارك ، وكان يرفض عروضا مغرية للعمل الاستشاري ببيوت الخبرة والحكومات الخليجية، وظل بحسب تعبير المتحدث "مصنعا للرجال" يمنح الباحثين والناشطين المستقلين الفرصة لمساعدته والتعلم منه باستمرار. ومن المسائل التي اهتم بها المسيري في سنواته الأخيرة قضية دور الدولة نحو المبدعين وكفالتهم، وقد واجه بالفعل محنة مرضية عصيبة تجاهلتها الحكومة المصرية وتدخل لتحمل تكاليف العلاج أحد أمراء الخليج البارزين. بين المسيري وسيد قطب في ورقة الباحث بلال علاء، تحدث عن قراءة الإسلاميين للراحل عبدالوهاب المسيري، واعتبر أن مشكلة التنويريين أنهم يدعون للتفكير وللاجتهاد ولا يفكرون أو يطرحون اجتهادا خارج منطقة الشريعة ، أما المسيري فقد استطاع كما يرى الباحث أن يحول رأس مال المثقفين من الشريعة للفلسفة الغربية . ومفهوم المسيري عن الإسلام ، كما يرى الباحث، مستمدا من القيم المطلقة والإيمان بالألوهية لكنه لا يتوقف كثيرا عند الأحكام والنصوص القطعية باعتبارها مساحة مفتوحة للاجتهاد، وقد سئل مرة عن خلو كتاباته من الاستشهادات القرآنية فأجاب بأنه يخاطب من لا يؤمنون بأن هذا القرآن نصا متجاوزا ، يخاطبهم بالعقل، وقد قال فلاسفة التنوير العرب أنه "لا سلطان على العقل إلا بالعقل". أما سيد قطب فكان في كتابه "معالم في الطريق" يناقش فكرة محددة عن الإسلام وأحكامه وكيفية وصوله للسلطة وإزاحة المعارضين ولو بالقتل وانتشار الإسلام حتى في أمريكا. لكن الباحث يتهم المسيري بأنه يبحث وراء العقلانية الأداتية، وليست العقلانية المطلقة وهو يضع برأيه مفهوما محيرا وملغزا عن العلمانية الجزئية والشاملة، وهي مسألة لا يعترف بها الباحث لكون الأولى تؤدي للثانية منطقيا . وللتدليل على ذلك، يقول علاء : كان المسيري يرفض مثلا تدخل شيوخ الأزهر بشئون البلاد المالية، كما لا يمكن أن نستعين بالمهندسين في إدارة المساجد، وهي أفكار سطحية لا تعني أنه مؤمن بالعلمانية لان تلك هي تطبيق أداتي فقط لفصل رجال الدين عن أمور الدولة ، لكنه مثلا لا يخبرنا عن رفضه لمحاكمة المفكرين والمبدعين لأسباب دينية، بل إنه يرفض من الأساس الحرية المطلقة للفكر والتعبير ويرى أنهما يجلبان الفوضى للمجتمع وينشران الرزائل. وقد علق الباحث محمد عرفه على ذلك بقوله أن الاجتهاد كان يجب أن يكون في تأريخ الشريعة، أكثر ما يكون في الشريعة نفسها بما يخلفها من وحي منزل وما إلى ذلك، لكننا نبحث في السياقات الاجتماعية التي أنتجت الآراء الفقهية التي يستند لها الأكثرية باعتبارها ثوابت وهي العملية التي نحن مدعون جميعا لخوض غمارها بجسارة. أما ممدوح الشيخ فرد بأنه لا يجوز تحميل مشروع الإسلامي بحمولات لم يوردها هو بنفسه صراحة، مؤكدا أن أزمتنا في العالم العربي تكمن في خلل العلاقة بين ثلاثة عناصر وهي : النظام والحق والحرية، فلو طغت الحرية على النظام صارت فوضى ولو طغت على الحق صارت إلحادا . واستدل الشيخ على رأيه بمكبات النفايات في روسيا التي صارت الفتيات تلقين فيها بالأجنة قبل اكتمالها بعد أن صار الزنا منتشرا ! وتلك من ثمرات الحرية التي اهداها العلمانيون لمجتمعهم. وأكد الشيخ أن نص المسيري مليء بالاستشهادات الدينية، وقال أن علمانيي العالم العربي يغفلون عن عمد عن ترجمة مراجعات الغرب للعلمانية وهم ملكيون أكثر من الملك ، ولنا أن نعلم فقط أن 162 مليون إنسان قتل في دول علمانية لأسباب لا علاقة لها بالسياسة وإنما بالاعتقاد !