اتجهت روسيا في المرحلة التي أعقبت الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي رسمياً في نهاية عام 1991، لتطوير نظم التسلح لكي تستعيد بعضاً من تأثيرها في مجال القوة الدولية، ولكي تصبح قوة منافسة لكل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والصين في وقت واحد، ولكنها اعتمدت عقيدة عسكرية مختلفة تماماً عن العقيدة العسكرية في المرحلة السوفيتية، فالأخيرة كانت تتجه نحو الهيمنة على العالم كقطب رئيس، بينما الوضع الحالي لروسيا لا يسمح لها بتحقيق هذه الهيمنة؛ لأن نظام التوازن الدولي قد تحول من الأحادية إلى القطبية. يأتي ذلك التطور في وقت تعتزم فيه روسيا استئناف دوريات الغواصات النووية من طراز "بوريه" المصممة لحمل (16) صاروخاً نووياً بعيد المدى إلى النصف الجنوبي من العالم في البحار الجنوبية بعد توقف دام عشرين عاماً، في خطوة ينظر إليها على أنها إحياء للقوة العسكرية لموسكو، التي تعتزم أيضاً إجراء حوالي خمسمائة تدريب عسكري على مستويات مختلفة في صيف هذا العام. وعلى مستوى الأهداف الإستراتيجية التي تسعى إليها روسيا من وراء ذلك الإعلان عن التدريبات العسكرية المزمعة هذا العام، يمكن أن نشير إلى أنها - على خلاف الاتحاد السوفيتي القديم - تفرط روسيا في الإعلان عن أسلحتها الجديدة والمطورة، كذلك والتدريبات المرتبطة بها سواء الذاتية أو المشتركة مع الدول الصديقة، ولا يكاد يمر يوم إلا وتحمل وكالات الأنباء أخباراً عن النشاط العسكري الروسي والأسلحة الروسية الجديدة، لتحقيق هدفين، الأول: وضع روسيا – إعلامياً - على خريطة القوى الكبرى في العالم، والأمر الذي يمكنها من استعادة قوتها تماماً ودورها العالمي، أما الثاني، فيدخل في نطاق الإعلان عن أسلحة روسية يمكن بيعها مما يحقق طفرة في الاقتصاد الروسي. عقيدة جديدة ومع بداية الألفية الثالثة، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وضع وثيقة للتصور الإستراتيجي لسياسة "روسيا" الخارجية مع بداية توليه السلطة، تستند على ثلاثة مبادئ، هي إعطاء أولوية لتطوير دور روسيا في عالم متعدد الأقطاب؛ كي لا يخضع لهيمنة قوى عظمى واحدة، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية. فيما كان المبدأ الثاني يدور حول تقوية الروابط مع حلفاء روسيا القدامى، وكذلك مع دول قارة أسيا الفاعلة، وفي مقدمتها الصين والهند واليابان، لتأكيد مصالح روسيا في مجالها الحيوي، وأخيراً جاء المبدأ الثالث عن حقيقة الالتفاف على توسيع حلف الناتو باتجاه شرق أوروبا ومنطقة البلقان، وذلك من خلال عقد تحالفات مع دول شرق أسيا الواقعة على المحيطين الهادي والهندي، وتعزيز التعاون مع دول "مجموعة شنغهاي"، وضم دول جديدة إليها مثل الهند وإيران وأفغانستان وباكستان، بما يؤثر على إستراتيجية الولاياتالمتحدة في تحقيق أمن وجودها في تلك المنطقة الإستراتيجية المهمة. الجدير بالذكر أن القدرة العسكرية الروسية انقسمت بطبيعتها إلى قسمين رئيسين، هما السلاح التقليدي المتمثل في أسلحة الجيوش من دبابات، ومدافع، وطائرات، وسفن، وصواريخ مضادة للدبابات، ومضادة للسفن وللطائرات وغيرها، ثم السلاح فوق التقليدي المتمثل في الأسلحة الإستراتيجية، والذي يبدأ بالصواريخ الباليستية، وينتهي بالقنابل النووية، مروراً بأسلحة الدمار الشامل. وهذا النوع الأخير من الأسلحة يطلق عليه أسلحة الردع، أو التوازن فوق التقليدي، ويمثل امتلاكه ضرورة خاصة للقوى الكبرى ممتدة المساحة، والتي تهدف إلى السيطرة على التوازن العالمي، ووقعت روسيا بشأن هذين النوعين من التسلح معاهدات واتفاقيات مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، مثل معاهدة "ستارت 1و2" ، كذلك اتفاقية نشر الأسلحة التقليدية في أوروبا؛ بهدف استعادة قوتها ودورها العالمي، وتحقيق طفرة في الاقتصاد الروسي. وقد أعلنت روسيا أن حجم مبيعاتها من الأسلحة المختلفة عام 2007 وصل إلى نحو 6.5 مليار دولار (نحو 195 مليار روبل)، وهو حجم مبيعات لم تصل إليه من قبل، وتخطط روسيا للتوسع في مجال تصدير الأسلحة، خاصة من الطائرات بأنواعها المختلفة، ليزيد عدد الدول المستوردة للأسلحة الروسية من (60) دولة في الوقت الحالي إلى (80) دولة بحلول عام 2010، وربما يعتبر معرض "ماكس – 2007" - الذي نظمته "موسكو"، وعرضت خلاله أحدث إنتاجها من الأسلحة بمختلف أنواعها، وأبرمت صفقات مع العديد من الدول بلغت نحو (400) مليون دولار - بمثابة إشارة على توجه روسي نحو المنافسة عالمياً بشدة في هذا المجال. أزمة اقتصادية وفي إطار هذه المحاولات الروسية لدرء مساوئ التراجع على مستوى خريطة القوة الدولية، يبدو أن المشهد الاقتصادي في روسيا ينذر بسيناريو متأزم، بحيث يعرب أكثر المراقبين تشاؤماً عن خشيتهم من عودة سيناريو 2008-2009 عندما أدت الأزمة العالمية وهبوط أسعار النفط إلى ركود في روسيا. وكانت وزارة الاقتصاد الروسية قد خفضت الشهر الماضي من توقعاتها بالنسبة لنمو إجمالي الناتج المحلي لعام 2013 من (3.6%) إلى (2.4%) في أعقاب استمرار العوامل السلبية. كما تراجع الانتاج الصناعي للمرة الأولى منذ 2009، فيما شهد الاستهلاك تباطؤاً بعد أن كان مدعوماً بفضل بطالة ضعيفة دون (6%)، وعلى هذه الوتيرة يبقى الاقتصاد الروسي بعيداً عن نسبة (7) إلى (8%) من النمو التي شهدها في ولايتي بوتين الأولي والثانية (2000 - 2008). وتوجه السلطة اللوم إلى الأزمة المستمرة في منطقة اليورو، حيث شركاؤها التجاريون الرئيسون، كما تنسب تراجع النشاط إلى مستوى نسب الفائدة المرتفعة التي فرضها البنك المركزي والمؤسسات المالية، إلى جانب المخاوف السائدة في الأوساط الاقتصادية والمالية من مناخ غير مؤات للأعمال يثقله الفساد والبيروقراطية والارتهان لتقلبات أسعار النفط. حقيقة واحدة وفي النهاية يمكن القول أن روسيا يمكن أن تشعر بتأثير موجة جديدة من الأزمة الاقتصادية العالمية، تحتاج معها إلى تطوير آليات جديدة لمواجهة احتمال حدوث ركود، وكان من ضمن هذه الآليات التطور العسكري الذي قد يحقق الهدفين المذكورين على المستوى الإستراتيجي والآخر العسكري. وعليه فإن التوازن ما بين روسياوالولاياتالمتحدة، سواءً في الأسلحة التقليدية أو فوق التقليدية، هو أمر غير محقق، وهناك فجوة كبيرة ما بين الدولتين في حقيقة هذا المجال، وإذا كانت تطورات الأحداث في الشرق الأوسط قد شكلت محور ترسيم للتوازن الدولي اليوم بين القوي الدولية، فإنه يمكن رصد نتيجة هامة للدور الروسي في الشرق الأوسط بشكل فاعل في الأزمة السورية، وهي حقيقة الرغبة الروسية في استعادة قدرتها السياسية، وزيادة التقارب على المستوى العالمي مع القوى المناوئة لأمريكا أو المعترضة على سياستها، وهو ما ظهر واضحاً في الأزمة السورية الحالية، وتواتر الأنباء عن تسليم "روسيا" لصفقة الصواريخ "إس 300" للنظام السوري. باحث بمركز الدراسات والبحوث