يستكمل د/ عماد هلال في الحلقة الثانية والأخيرة ، الفكرة التي طرحها في الحلقة الأولي عن ظروف مقتل كليبرو وقائع المحاكمة الظالمة لسليمان الحلبي وأدلة البراءة من تهمة القتل وإليكم تفاصيل الحلقة الثانية . أدلة براءة سليمان الحلبي ثانيا- الفرنسيون غير صادقين فى منشوراتهم دائما : فكل منشوراتهم التي وزعوها على المصريين ولصقوها على الجدران كاذبة ، وتحتوى على كثير من الخدع والتمويهات مثل : منشور بونابرت الذي أصدره عشية نزوله أرض مصر والذي يشهد فيه بأنه لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له فى ملكه ، وهناك عشرات المنشورات التي يكفى للتأكد منها الرجوع إلى الجبرتي ومنها بالتأكيد منشور يحتوى على نص محاكمة سليمان الحلبي . ثالثا – الضرب لم يكن عادة متبعة فى المحاكم المصرية : زعم الفرنسيون فى محاضر التحقيق أنهم لجئوا إلى " الضرب " على عادة أهل البلاد – لتقرير المتهمين بعد أن أنكروا ، فهل كان الضرب أسلوبا متبعا فى النظام القضائي المصري قبل أو أثناء أو بعد الحملة ؟ اللهم لا .. فلم يثبت إطلاقا فى تاريخ القضاء المصري أن ضرب إنسان فى المحكمة ، حتى ولو كان القاضي متأكدا من كذبه ، فقد كان المتهمون والشهود يدلون بأقوالهم فى حرية تامة ويؤكدون اعترفوا وأقروا "وهم فى أكمل الأوصاف المعتبرة شرعا " بدون إكراه ولا إجبار ، وهذا ينطبق على جميع أنواع القضايا سواء فى المعاملات المالية أو القضايا الحقوقية أو المسائل الجنائية ، وتذخر سجلات المحاكم الشرعية فى العصر العثماني وكذلك فى القرن التاسع عشر بقضايا قتل وإعلاميات شرعية حُكِم في بعضها بالقصاص والبعض الآخر بالدية ، وفى بعض آخر بالمنع من الدعوى أي بالبراءة لعدم ثبوت الأدلة أو عدم كفايتها . أما الضرب الذي يتحدثون عنه فلم يكن خاصا بالقضاء المصري – الذي كان فى جميع الأحوال أرقى من القضاء الفرنسي بمراحل – وإنما يقصدون ما اعتاد عليه الحكام من المماليك والأتراك من جلد الفلاح المتظاهر بالفقر والمتهرب من دفع الضرائب أو أداء السخرة فهذا ليس فى القضاء وإنما هو مسألة إدارية لا تخضع لنفوذ القضاة. رابعا – سلطات قاضى القاهرة فى المسائل الجنائية أثناء الحملة : كان من سلطة القاضى الشرعي فى القاهرة فى العصر العثماني " الحكم فى القضايا الجنائية وتوجد كثير من وثائق سجلات المحاكم الشرعية لقضايا سرقة حكم فيها بالقطع ، وقضايا زنا حكم فيها بالرجم ، وقضايا قتل حكم فيها بالقصاص " ، ولم يتعرض هذا النظام لتغيير كبير فى فترة الحملة ، ويؤكد الجبرتي ذلك عندما يشير إلى التحقيق فى قضية قتل فيقول (وجدت امرأة مقتولة ببستان عمر كاشف بالقرب من قناطر السباع ، فتوجه بسبب الكشف عليها رسول القاضى والأغا ، وأخذوا الغيطانية وحبسوهم ، وكان بصحبتهم القبطان الحاكم بالخط ، ولم يعلم القاتل ، ثم أطلقوا الغيطانية بعد عدة أيام) لاحظ أنه لم يكن هناك ضرب (على عادة أهل البلد) ولم يجبر الغيطانية على الاعتراف . فأين القاضى الشرعي فى محاكمة سليمان الحلبي ، فالقتيل فرنسي والقاضى فرنسي والشهود فرنسيون والمحامى فرنسي خامسا - العثمانيون لم يحرضوا على قتل كليبر ثبت بما لا يدع مجلا للشك لدى كثير من المؤرخين أن نسب تهمة التحريض على القتل إلى العثمانيين إنما هى فرية افتراءها الفرنسيون ، ونستطيع أن نؤكدها من خلال الإشارة إلى عدة حقائق منها : أن سليمان الحلبي لم يكن جندي فى الجيش العثماني ، ولم تكن لديه خبرة قتالية ، ولم يتلق أي تدريب على أعمال فدائية ، ولا يعرف شكل الهدف المطلوب قتله ، والعثمانيون كانوا يعتزون بتركيتهم ويحط من كرامتهم أن يعهدوا بمثل هذه المهمة إلى عربى فلاح . سادسا سيناريو جديد للأحداث : نستطيع أن نتخيل الأحداث كالتالى : قام شخص ما بالتسلل إلى حديقة السراي وقتل كليبر ونجح فى الهروب ، وأزمع الفرنسيون الانتقام من أهل القاهرة جميعهم ، ولكن القادة وجدوا أن ذلك سيسبب لهم مشاكل كثير ، ففى القاهرة ما يكفى من الغضب لثورة ثالثة بعد الغرامات التى نكب بها أهلها ، ولذلك قرروا ابتلاع الإهانة فالأخطار تحاصرهم من كل مكان ، ودبروا مؤامرة لنسبة التهمة إلى شخص آخر يطفئون بقتله جمرة غيظهم وحقدهم ، وتصادف أن كان سليمان يسير فى الشارع المجاور للحديقة فقبضوا عليه وضربوه حتى اعترف بما أرادوا ، أو قل إن شئت لم يعترف ، ولكنهم قالوا أنه اعترف ، ومن سيُكَذِبُهم إذا كانت كل إجراءات المحاكمة لم يحضرها مصري واحد ، ولم يلتق مع سليمان أو يحادثه قبل أو أثناء أو بعد المحاكمة أي مصري أو عربى غير الثلاثة الذين حكم عليهم بالإعدام ودفن معهم سرُّهم ، ولكي يقنعنا الفرنسيون بصحة التهمة دبروا محاكمة شكلية ، مُحكمة الإجراءات ، باطلة من عدة وجوه : أنها لم تشر إلى نوع القانون ورقم المادة التى حكم بمقتضاها ، أنه لم يتح للمتهمين الدفاع عن أنفسهم ، ولم يتح لهم حق النقض (لاحظ أن محكمة النقض والإبرام الفرنسية أنشئت قبل عشر سنين من تاريخ هذه المحاكمة) نستطيع أن نتبين صحة هذا السيناريو من خلال الحقائق التالية التى استخلصناها من أوراق التحقيق : - •أن سليمان أكد أنه لم يقبض عليه داخل الحديقة بل خارجها . •أن شركاء سليمان عرفوا بقتل كليبر قبل القبض عليهم بعدة ساعات فلماذا لم يهربوا ؟ •أن سليمان كان لديه الوقت الكافى للهرب من الحديقة مدة عشر دقائق قبل وصول الحراس . •الواضح من المحاكمة أن جميع المتهمين أنكروا وأنهم لم يعترفوا إلا بعد الضرب ، ونص المحاكمة واضح وهو أن الضرب كان يستمر ولا يرفع عنهم إلا بعد أن يقروا بما يُطلب منهم أن يقروا به. •سليمان قال فى مبدأ التحقيق أنه دخل القاهرة فى شهر فبراير أى بعد توقيع معاهدة العريش وانفتاح طريق الشام ، ولكن بعد الضرب قال (أو هكذا كتبوا فى محضر التحقيق) بأنه دخل القاهرة مع إحدى القوافل يوم 14 مايو ، أى بعد أسبوعين من القضاء على ثورة القاهرة الثانية ، وكانت طريق الشام لا تزال مغلقة وتترصد عيون الفرنسيين كل قادم من ناحيتها ، فكيف جاءت هذه القافلة إلى مصر . •حقيقة أخرى هى أن أوراق التحقيق ذكرت أن الصراع بين بروتان وسليمان نتج عنه قطع جزء من عمامة سليمان ووجدت فى مكان القتل ، فهل يعقل أن تنقطع العمامة؟ يجوز أن تقع كلها من على الرأس لكن هل يعقل أنها تتمزق حتى لو جذبها بروتان. •وهل يعقل أن كليبر يمد يده إلى رجل جاء إلى الحديقة متسللا ليقبلها. •وهل يعقل أن يُطعن المهندس ست طعنات بالخنجر منها طعنة بين الضلوع وأخرى فى الصدر من الناحية اليسرى ثم يكون به قدرة وتركيز على التعرف على القاتل بعد ساعتين من الحادثة فى وسط مجموعة من العمال ؟ •وسؤال أخير له إجابة عندنا ولكن يضيق المقام لعرضها هو لماذا سمى مينو ولده الذى أنجبه فى مصر من السيدة زبيدة الرشيدية باسم سليمان . وعلى أية حال فنحن نطالب بالاحتفال رسميا بذكرى سليمان الحلبي يوم 17 يونيو من كل عام ، فهو فى جميع الحالات شهيد العدالة الفرنسية المزعومة، كما نطالب بإعادة جمجمته المحفوظة فى متحف التاريخ الطبيعي بباريس لتدفن فى مصر ويقام فوقها نصب تذكاري لشهداء الحملة الفرنسية (60 ألف شهيد) فى نفس الموقع الذى أعدم فيه وهو تل العقارب بالناصرية .