كانت مصر تتباهى بقضائها أمام كافة دول العالم، إلا أن الرياح أحيانا تأتي بما لا تشتهي الأنفس ، حيث يتعرض القضاء الآن لهجمة شرسة لا نستطيع أن نتنبأ إلى أي شئ سينتهي بها الحال ؟ ، وذلك منذ صدور الحكم على مبارك ونجليه والعادلى في قضية قتل الثوار. ولا تعتبر هذه المرة هي الأولى التي يحدث فيها صدام بين الحاكم والقضاء فيبدو أن العلاقة بين القضاة والحكام في مصر على مدار العقود الأخيرة لم تكن طيبة بحال من الأحوال.
"مذبحة القضاء"
ففي 31 أغسطس 1969 في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تم عزل رئيس محكمة النقض، وأكثر من نصف مستشاريها وناهز عدد القضاة المعزولين حوالي مائتي قاضٍ من القضاة المتمتعين بحصانة عدم القابلية للعزل بغير الطريق التأديبي طبقاً للقانون ، وأطلق على تلك الأزمة "مذبحة القضاة".
أما أسباب هذه الكارثة، فقد كان وراءها سبب غير مباشر وهو هزيمة يونيو 1967 وما تبعها من آثار نفسية وعصبية على القيادة السياسية، وعلي من كانوا علي صلة بها من أعضاء التنظيم السري الطليعي في الاتحاد الاشتراكي، وللأسف الشديد فقد كان بعض رجال القضاء ومجلس الدولة منخرطين في هذا التنظيم كما تبين لنا فيما بعد، وكانوا معدودين علي أصابع اليدين وكان بعضهم يكتب التقارير السرية عن زملائه إلي القيادة السياسية يومياً بما كان يدور من أحاديث في نادي القضاة، ومجالس القضاة الخاصة، حيث كانت هذه مهمة أعضاء ذلك التنظيم وبهذا الأسلوب بدأوا في إثارة غضب الرئيس جمال عبد الناصر بصورة متصاعدة ضد القضاة.
وفي الوقت ذاته، كان الرئيس عبد الناصر يلح علي المستشار عصام حسونة وزير العدل في أن يشكل تنظيماً سرياً من القضاة!! وكان الوزير غير مقتنع بهذه الطريقة لتعارضها مع أخلاق القضاة، فكلف عبد الناصر وزير الداخلية شعراوي جمعة بتشكيل جماعة قيادية لهذا التنظيم، فشكلها من عدد من رجال القضاء ومجلس الدولة، وإدارة قضايا الحكومة، والنيابة الإدارية، واسماهم هيئات قضائية، وهي واقعة حدثت لأول مرة في تاريخ القضاء المصري منذ نشأته وحتى هذه الكارثة التي أطلق عليها "مذبحة القضاء".
وبعد تولي المستشارمحمد أبو نصير وزيراً للعدل قام بتشكيل تنظيم سري من القضاة!! وكانت نواة هذا التنظيم وجود قضاة أشقاء بعض الوزراء آنذاك، وأخذت هذه الجماعة تعقد جلسات دورية برئاسة الوزير محمد أبو نصير الذي بذل جهداً كبيراً في سبيل تكوين تنظيم طليعي داخل القضاء، واستعان بتكوينه ببعض الذين خضعوا لنفوذه ونفوذ عملاؤه، وهنا تزايدت التقارير اليومية علي مكتب الرئيس عبد الناصر.
وناقش الوزير مع اللجنة العليا هذا التنظيم، وطالب الجواسيس في توصياتهم بإعادة تشكيل هيئات القضاء، ودمجها في النيابات الإدارية وإدارة قضايا الحكومة، وإجراء التنقلات بين القضاة إلي هاتين الجهتين، وإلي غير ذلك من المقترحات الهدامة والمبالغات الجسيمة في حق الشرفاء من رجال القضاء.
وبما أن "مذبحة القضاء" كانت أمراً جسيماً اهتزت له مصر من أقصاها إلي أقصاها، فقام الرئيس محمد أنور السادات حين تولي الحكم بإصدار قرار بإعادة بعض المعزولين إلي محكمة النقض في الدعوي التي اقمتها فور صدور المذبحة بانعدام هذه القرارات قانونياً.
ثم أصدر السادات قانوناً بإعادة القضاة المعزولين الباقين الذين لم يتجاوزوا سن التقاعد، وتمت إحالة اثنين من الجواسيس إلي المحكمة التأديبية، وانتهت بعزلهما ولهذا السبب رفع السادات شعار العفو عن الباقين فتوقف نظام التأديب عن محاكمتهم لأن المحاكمة بنص القانون تتوقف بناء علي طلب من الوزير برفع الدعوي التأديبية.
ضرب وسب ولم يقتصر الأمر على العزل فقط ففي عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك تعرض قضاة للمحاصرة والضرب والسب ، ففي فجر يوم 24 ابريل عام 2006 وفي واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المصري شهد شارع عبد الخالق ثروت صورة جديدة من صور الاعتداء علي القضاء المصري، حيث قام ضابطان بمباحث أمن الدولة، و4 من أمناء الشرطة بالاعتداء بالضرب والسب بالأب والأم علي المستشار محمود عبد اللطيف حمزة رئيس محكمة شمال القاهرة الابتدائية وقتها، وشقيقه أمام نادي القضاة، عندما كان المستشار يحاول تصوير الاعتداء الأمني على أعضاء حركة كفاية، والنشطاء المعتصمين أمام النادي، ومحاولات رجال الأمن إزالة الكتابات المكتوبة علي الأرض تضامنا مع القضاة.
وجاء هذا الاعتداء ليرفع حدة المواجهة بين القضاة والحكومة، ويوقف محاولات بعض كبار المسئولين من أعضاء النادي، أمثال المستشار عدلي حسين محافظ القليوبية حينها للتفاوض لإنهاء الأزمة، التي اشتعلت عقب قرار المستشار أبو الليل وزير العدل بإحالة المستشارين البسطويسي ومكي نائبي رئيس محكمة النقض لمجلس الصلاحية، حيث ألغي قرارا كان مقررا خلال الساعات المقبلة للتفاوض حول إنهاء الأزمة.
وقال المستشار محمود وهو يرقد في المستشفى بعد الاعتداء عليه :"كيف أصدر حكما وأجلس علي منصة القضاء بعد أن تم الاعتداء علي، وإهانتي بأبشع الألفاظ الخارجة، التي لم أسمعها من قبل"؟. وأضاف: عندما قام الضابطان بالاعتداء علي بالضرب والسب، صرخت: "حاسب.. أنا مستشار.. رئيس محكمة شمال القاهرة" فجاء الرد صارما: "أخرس يا كلب".. ثم فوجئت ب4 أمناء شرطة يمسكون بشقيقي أحمد ويعتدون عليه هو الآخر، وقام الضابطان وأمناء الشرطة بإلقاء الكارنيهات والبطاقة الخاصة بي علي الأرض، وسحبوا الطبنجة الخاصة بي، وتليفوني المحمول، واستمروا في الاعتداء علي دون رحمة والنظر لتوسلاتي، بعد أن سمعت شتائم لم أسمعها في حياتي، كما سمعت صرخات شقيقي التي لم تتوقف حتي جمعت بيننا سيارة الترحيلات.
وأضاف:"داخل السيارة التي شاهدتها كثيرا أمسكت بشقيقي أحمد، وكنت أنزف بشدة، ثم أغلق الضابطان وأمناء الشرطة باب السيارة، ولم أتوقف عن النداء: أنا رئيس محكمة، ولم يسأل أحد في أو في شقيقي. وكان معنا 4 آخرون في نفس السيارة، حيث اصطحبونا إلي منطقة عرفت فيما بعد أنها عابدين، وأخذوا الأربعة وبقيت أنا وشقيقي. أمسكت بضابط دخل علي وقلت له أرجوك عايز دكتور أو سيارة إسعاف، بعدها دخل 4 ضباط مختلفين، وكل واحد يقول: اسمك ايه دون الاهتمام بالنزيف.. آخرهم قلت له أنا مريض أجريت عملية قلب مفتوح، وأشرت إلي الجراحة والنزيف دون جدوى".
وعلق المستشار هشام البسطويسي نائب رئيس محكمة النقض المصرية على تلك الواقعة قائلا :"ما يحدث هو سابقة في تاريخ نادي القضاة منذ تأسيسه عام 1939، فالإجراءات التي حدثت في الستينيات ضد القضاة كانت أقلَّ حدةً مما تحاول أن تفعلَه السلطةُ الآن، حيث لم تجرؤ على التصدي للسلطة القضائية مباشرة، وإنما استعانت بالسلطة التشريعية من خلال سن قرارات لها قوة القانون، بموجبها تمَّ فصل بعض رجال القضاء، أما ما يحدث الآن فهو تعد مباشر من السلطة التنفيذية ممثلة في وزيرِ العدل، على السلطة القضائية ممثلة في هؤلاء القضاة".
وأضاف :"الغرض من هذه الإجراءات التعسفية هو البطش بنا وإرهابنا، وإسكاتنا عن المطالبة بفتح التحقيقات في جرائم تزوير الانتخابات، ومحاسبة مرتكبيها أياً كانت صفتهم، ومحاسبة من تعدى على رجال القضاء، لكن هذه الإجراءات التعسفية لن تثنينا عن مسيرتنا، وإنما زادتنا صلابة وتمسكاً بمواقفنا، كما زادت من التفاف القضاة حولنا، في ظل تأييد غير مسبوق من منظمات المجتمع المدني والقوى الوطنية المختلفة".
قنبلة في وجه القضاة
أما المعركة الأخيرة فقد بدأت بقرار الرئيس محمد مرسي باستبعاد النائب العام السابق المستشار عبدالمجيد محمود وتعيينه سفيراً لمصر بدولة الفاتيكان، وهو القرار الذي أغضب جموع قضاة مصر، واعتبروه تدخلاً من السلطة التنفيذية في قانون السلطة القضائية، الذي يمنع الرئيس من عزل النائب العام إلا بطلب منه شخصياً، أو بلوغه سن المعاش، ومع استمرار ضغط القضاة على مؤسسة الرئاسة، تراجع الرئيس مرسى عن قراره، وقرر الإبقاء على النائب العام في منصبه.
أما الازمة الكبيرة فكانت بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي وكان بمثابة قنبلة في وجه القضاء حيث أعلن مساء الخميس في 22 نوفمبر / تشرين الثاني إعلانا دستوريا من سبع نقاط رئيسية، كان أهمها أنه حصن الهيئة التأسيسية التي تعد مسودة الدستور ومجلس الشورى بجعلهما بعيدين عن الحل من قبل القضاء وحصن قراراته في وجه المحاكم، كما أطاح بالنائب العام بعد أن جعل مدة بقائه في منصبه 4 سنوات ابتداء من شغله هذا المنصب، ومن ثم عين نائبا عاما جديدا.
ومنذ هذا الإعلان وقد نشبت أزمة ما زالت مستمرة حتى الآن ، ووصف القضاة هذا الإعلان ب "المنعدم".. ومؤكدين ثباتهم على موقفهم الصلب، واستكمال كافة الإجراءات التصعيدية للحفاظ على دعائم دولة القانون، وحماية لاستقلال وحقوق وحريات الشعب المصري.
ولم يقتصر الأمر على الإعلان فقط فقد قام عدد كبير من المنتمين للتيار الإسلام بالاعتصام حول مبنى المحكمة الدستورية أمس الأحد تحسُّباً لحُكم قد تُصدره المحكمة بحل "الجمعية التأسيسية للدستور".
فكان من المقرر أن تفصل المحكمة الدستورية أمس، في بقاء مجلس الشورى وتأسيسية الدستور ولكن قام الإعلان الدستوري بتحصين التأسيسية والشورى ضد أي حكم فلماذا تلك التظاهرات؟ ، التي أدت إلى عدم قيام المحكمة بعملها .
فقد احتشد حوالي 5 آلاف من المنتمين للتيار الإسلامي، منذ منتصف ليلة السبت، حول مبنى المحكمة الدستورية العُليا بضاحية المعادي في القاهرة تحسُّباً لحكم قد تصدره بحل الجمعية التأسيسية للدستورية التي أعدت مشروع دستور جديد لمصر ويجري الاستفتاء عليه في 15 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري ، حيث توجَّه المعتصمون من محيط جامعة القاهرة بمدينة الجيزة إلى مبنى المحكمة، عقب انتهاء مظاهرة مليونية حملت شعار "الشرعية والشريعة" لتأييد الرئيس المصري محمد مرسي في إعلان دستوري أصدره مؤخراً ولمشروع دستور جديد لمصر أقرته الجمعية التأسيسية للدستور.
وقضت حشود من أنصار جماعة الإخوان المسلمين وتيارات إسلامية ليلتهم أمام المحكمة في الوقت الذي أعلن أعضاء من المحكمة من وزارة الداخلية تكثيف التأمين بما يسمح لهم بالوصول إلى المحكمة لعقد الجلسة.
وردد المتظاهرون الذين قاموا بحصار مقر المحكمة، هتافات مناوئة للمحكمة الدستورية العليا وقضاتها، متهمين إياهم بالسعي ل "هدم مؤسسات الدولة المنتخبة".. وجاء من بين الهتافات التي رددها المتظاهرون: "عيش.. حرية.. حل الدستورية" و "الشعب يريد حل المحكمة الدستورية" و "يا قضاة الدستورية اتقوا شر المليونية" وغيرها من الهتافات.
وكان "مجلس أمناء الثورة" قد دعا في بيان أصدره جميع أعضائه في القاهرة والمحافظات و"رفقاء ميدان التحرير" إلى "الاعتصام أمام مقر المحكمة الدستورية العليا"، احتجاجاً على ما وصفه ب "الأحكام المسبقة وغير الشرعية، بحق الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى.
وتسببت تلك التظاهرات في عجز مستشاري المحكمة الدستورية عن الحضور لمقر المحكمة لنظر ومباشرة القضايا المدرجة في جدول الجلسات، والتي بلغ عددها 31 قضية دستورية، من بينها القضيتين المتعلقتين بمجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور.
وفي النهاية نتساءل هل سيستعيد القضاء المصري هيبته ؟ ، وهل ستستمر أزمة القضاة مع رؤساء على مر العصور ؟ . مواد متعلقة: 1. قضاة مصر يعلنون رفضهم الإشراف على الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد 2. محاميو الإخوان يعترضون على إضراب القضاة بدمياط 3. ماذا لو امتنع القضاة عن الإشراف على الاستفتاء؟