مهمة الكاتب أن يسخر موهبته للدفاع عمّا يؤمن به الإعلام يلهث وراء الفضائح والأخبار الجادة مصيرها القبر! التمرد أول دوافع الكتابة عند يوسا الابتعاد عن الوطن يُخصِّب الذاكرة ويفيد المبدع عملت بسبع وظائف في آن واحد والكتابة أفضل ما حدث لي تمر اليوم 28 مارس ذكرى ميلاد الروائي البيروفي – الإسباني "ماريو بارجاس يوسا"، الذي ولد في بيرو عام 1936. ويحمل الجنسية الإسبانية إضافة إلى البيروفية, وهو مرشح سابق للرئاسة في البيرو . نال يوسا جائزة نوبل عام 2010، وعن ذلك يقول: ينطلق الناس من إفتراض أن جائزة نوبل تعني نهاية الكاتب، وبأنه سيغدو بعدها جثة هامدة. لا يأخذونه على محمل الجد. لكن إذا إجتهد الواحد منا، يمكن الإستمرار في البقاء حياً حتى بعد الحصول على هذه الجائزة. "محيط" يتذكر أشهر آراء الروائي الكبير عن الأدب والصحافة والثقافة. ممتن للصحافة! كل ما حققه يوسا من نجاحات أدبية لم يقنعه بالابتعاد عن الاشتباك مع الواقع، فهو حتى الآن يكتب فى الصحف مقالات منتظمة، بل ويقوم أحيانا بعمل تحقيقات صحفية بتكليف من بعض الصحف، وهو يعلن دائما أنه مدين للصحافة بأنها ألهمته نصف ما كتبه. نرى يوسا عندما يُسأل فى حوار صحفى حول إصراره على كتابة المقالات السياسية وما إذا كانت يمكن أن تؤثر عليه سلبا، يرد قائلا "أعتقد أن الكاتب لا يجب أن يفكر فى الانسحاب، إن مهمة الكاتب هى أن يكتب بصرامة وأن يدين كى يدافع عما يؤمن به بكل ما لديه من موهبة، أؤمن أن هذا اعتبار أخلاقى للكاتب، لأنه لا يمكنه أن يكون فنانا مجردا، أعتقد أن على الكاتب مسئولية من نوع ما، على الأقل فى أن يشارك فى الحوار المدنى، لأننى أعتقد أن الأدب يحسن الأحوال إذا أًصبح جزءا من برنامج الناس والمجتمع والحياة... أعتقد أن مداخلات الكتاب فى الحوار العام يمكن أن تصنع فرقا، إذا انتزعت الثقافة تماما من سياق ما يجرى فإنها تصبح مصطنعة". لم يكتف يوسا فقط بالكتابة فى الشأن السياسى والاشتباك مع الواقع، بل قرر أن يخوض تجربة العمل السياسى بشكل مباشر، لعلك تعلم أنه رشح نفسه لانتخابات الرئاسة فى موطنه بيرو ضد رئيسها ألبرتو فوجيمورى ودخل فى جولة إعادة، وكانت تجربة مريرة قضى فيها ثلاث سنوات من عمره لكنه تعلم منها أشياء كثيرة أهمها أن "شهوة السلطة السياسية يمكن أن تدمر عقلا بشريا وتدمر مبادئ وقيما، وتحول البشر إلى وحوش صغيرة"، وأن "الطغاة ليسوا كوارث طبيعية بل تتم صناعتهم بمعاونة عديد من البشر، وأحيانا بمعاونة ضحاياهم أيضا"، بعد هزيمته قرر أن يعود ثانية إلى الأدب. زمن البهلونات في مقاله الذي يحمل نفس الاسم، أدان يوسا ما قام به القس الأمريكى المتعصب تيرى جونز الذى دعا إلى حرق المصحف الشريف فى كنيسته بفلوريدا. تحدث يوسا في مقاله عن ثقافة الاستعراض التى أصبحت هى السمة الأساسية لمجتمعنا فى هذا الزمن الذى يصفه بأنه أكثر الأزمنة التباسا فى تاريخ البشرية، معتبرا أن ما فعله جونز من حماقة وبهلوانية لم يكن يستحق سوى الصمت أو التجاهل أو على أقصى تقدير كتابة سطرين فى صفحة النكات والغرائب بالصحف، لكن احتفاء وسائل الإعلام بجونز كاد يشعل العالم كله. وجونز كان سعيدا بذلك ولم يدرك أبدا خطورة ما فعله لأن على حد تعبير يوسا "أحد ملامح التعصب المحددة هو عدم قدرة المتعصب على تملك خطة بالأولويات الرصينة والمنطقية، فالأولوية الأولى لديه هى دائما فكرة أو إله يمكن أو يجب أن يضحى بالآخرين من أجله". لا يلقى يوسا اللوم على وسائل الإعلام وحدها بسبب تضخيمها لما حدث، فهو يرى أنها باتت مضطرة لفعل ذلك لأن هذا هو ما ينتظره منها قراؤها ومشاهدوها فى العالم أجمع "أخبارا تخرج عن الروتين اليومى، تدهش، تربك، ترعب، تفضح وفوق كل شىء تسلى وتلهى.. لا يمكن أن تكون المعلومة فى أيامنا جادة، لأنها لو كانت كذلك سيكون مصيرها القبر". ولكى تمتلك وسائل الإعلام الآن الحق فى الوجود والازدهار لا يجب أن تعطى أخبارا، وإنما تقدم استعراضا لمعلومات تشبه فى لونها وفكاهتها وطابعها المثير وعلو نبرتها، الاستعراضات الواقعية حيث يلتبس الحق بالباطل كما يحدث فى العمل الخيالى". الرواية الرديئة يعرف يوسا الرواية الرديئة بأنها "الرواية التي تفتقر إلى قوة الإقناع، لا تقنعنا بحقيقة الكذبة التي ترويها لنا، وعندئذ، تظهر لنا تلك الكذبة على حقيقتها، مجرد كذبة خدعة، بدعة تعسفية وبلا حياة خاصة بها، تتحرك بتثاقل وخراقة مثل دمى محرك عرائس سيئ، تظهر الخيوط التي يحركها بها خالقها واضحة للعيان، وتكشف عن شرطها ككاريكاتير للكائنات الحية، ولا يمكن لمآثرها وآلامها أن تؤثر في مشاعرنا إلا بصعوبة، إذ هل يمكن لتلك الكائنات أن تعيش تلك المآثر والآلام؟ هي مجرد خدع، دون حرية، وبحيوات مستعارة". يقول يوسا "الكاتب يشعر في أعماقه بأن الكتابة هي أفضل ما حدث ويمكن أن يحدث له لأن الكتابة في نظره هي أفضل طريقة ممكنة للعيش". أما دوافع الكتابة فتختلف عند كلٍ منا كما يرى يوسا، إلا أن النواة الأولى لها هو التمرد. المنفى الاختياري حين سئل أنه كتب الكثير من أعماله خارج وطنه بيرو، فيما يمكن أن نطلق عليه اسم المنفى الاختياري، يقول: في بعض الحالات لم أكن قادرًا على الكتابة عما هو قريب مني، قربي من المكان يكبلني، بمعنى أنّه لا يسمح لي بالعمل بحرية، من المهم جدًا أن تكون قادرًا على العمل بحرية تسمح لك بتغيير الواقع، بتغيير الناس، بجعلهم يتصرفون بشكل مختلف، أو أن تدخل عناصر شخصية في السرد، تدخل أشياء عفوية واعتباطية تماما، وتلك مسألة جوهرية جدًا، هكذا يكون الإبداع، إذا كان الواقع ماثلاً أمامك، يبدو مثل قيدٍ يكبلك، أنا أحتاج دائما إلى مسافة معينة، فترة فاصلة، وهو الأفضل، في كل من الزمان والمكان. بهذا المعنى، فإن المنفى يصبح مفيدا جدا، فبسببه اكتشفت الانضباط، اكتشفت أن الكتابة هي عمل ووظيفة، والجزء الأهم في الموضوع أنها التزام، والبعد المكاني مفيد أيضًا لأنني أؤمن بالأهمية البالغة للحنين بالنسبة للكاتب. فالغياب عن مكان الموضوع يخصّب الذاكرة، فمثلا عندما تناولت بلادي في روايتي "البيت الأخضر"، لم يكن الأمر وصفا لها، بل وصفت بيرو كشيء كان يحن إليه رجل محروم من وطنه ويشعر برغبة جارفة نحوه، وفي نفس الوقت أعتقد بأنَّ الابتعاد يخلق رؤية مفيدة، فهو يوجز لنا الواقع، ذلك الشيء المعقد الذي يصيبنا بالدوار، إنه من الصعب جدًا أن تختار أو تميز بين ما هو مهم وما هو ثانوي، فالابتعاد يجعل ذلك التمييز ممكنا. الأدب والطفولة الأدب بالنسبة لي شيء مهم جدًا، كما يؤكد يوسا، حتى حين كنت طفلا، ورغم أنني قرأت وكتبت كثيرًا خلال سنين المدرسة، لم أتخيّل يوما أنني سأكرِّس نفسي تماما للأدب، لأنه في ذلك الوقت، كان الأدب يبدو ترفًا في أمريكا اللاتينية وخصوصًا لأبناء بيرو، كان في ذهني أشياء أخرى، كنت أخطط للعمل في مجال القانون أو لأصبح أستاذ جامعة أو صحفيًا، وسلمت بأن ما هو جوهري بالنسبة لي سوف يتراجع إلى الخلف. ولكن حين وصلت الى أوروبا، حين حصلت على منحة بعدما أنهيت دراستي الجامعية، أدركت أنني إذا واصلتُ التفكير بتلك الطريقة فلن أكون كاتبا، وبأن الطريقة الوحيدة هي أن أقرِّر رسميا بأن الأدب لن يكون شغلي الشاغل الوحيد بل ومهنتي أيضًا، وحدث ذلك حين كرَّست نفسي كليا للأدب، وحيث أنني لا استطيع إعالة نفسي عن طريق الأدب، فقد قرَّرت أن أبحث عن وظيفة توفّر لي الوقت اللازم للكتابة، ولكن دون أن تصبح من أولوياتي، بكلمات أخرى، قرَّرت أن أختار وظيفة تناسب عملي ككاتب. عندما اتخذت ذلك القرار، اعتقدت أن ذلك يعني أنني اخترت حياة صعبة، لأنني لم أتخيل أبدًا أنه يمكن للأدب أن يوفّر لي أدنى متطلبات العيش، ناهيك عن العيش الرغيد، وبدا ذلك أشبه بالمعجزة، ولا أستطيع حتى هذه اللحظة نسيانه. لقد تزوجت حين كنت شابا جدا وكان عليَّ أن أعمل بأية وظيفة أحصل عليها، وكنت أعمل في سبعة وظائف في وقت واحد، وكان ذلك يعني عمليا استحالة أن اكتب، كنت أكتب أيام الأحد وفي العطل، ولكنني قضيتُ أغلب وقتي في عملٍ ممل ليس له علاقة بالأدب، وشعرت بالإحباط العميق جراء ذلك، واليوم حين أستيقظ صباحا، فانا غالبا ما اندهش من فكرة أنني أستطيع أن أعيش حياتي وأنا أعمل الشيء الذي يمنحني أقصى درجات المتعة، وأكثر من ذلك، أعيش من ورائه وبشكلٍ مرفّه. طقوس الكتابة عن بداية الرواية لديه وطقوس الكتابة يقول: يبدأ الأمر من حلم يقظة، نوع من استرجاع ذكرى لشخص ما، موقف ما والتأمل والتفكير فيه، شيئا لا يحدث إلا في الذاكرة، عندها أبدأ بكتابة الملاحظات، وملخصات لتتابع السرد، شخصٌ ما يدخل المشهد هنا، يغادر إلى هناك، يفعل هذا الشيء أو يفعل ذاك، وحين أبدأ بالعمل على الرواية نفسها، فأنا أرسم مخططًا عامًا لحبكة الرواية، والذي لا أتبينه أبدا، وقد أغيره تماما أثناء سير العمل، ولكن تلك الخطوة هي التي تمكنني من الشروع في كتابة الرواية، ثم أبدأ بجمعها سوية، ومن دون أدنى انشغال بالأسلوب، أكتب وأعيد كتابة المشهد نفسه، وأقوم بإجراء توافق وانسجام بين مواقف متناقضة تماما. النَّص الاول يكتب في حالة شديدة من القلق والتوجس، وحالما انتهي من تلك المسودة – والتي يمكن احيانا ان تأخذ وقتا طويلا، فبالنسبة لرواية (حرب نهاية العالم) فان المرحلة الاولى استغرقت سنتين تقريبا – فإن كل شيء يتغير، وعندها أدرك أين تكون القصة، مدفونة في أعماق ما أدعوه عصارة فكري، ومع أنَّ الفوضى تشيع بالكامل في تلك العصارة، إلا أن الرواية موجودة هناك، مفقودة في وسط فوضى متألفة من عناصر ميتة، ومشاهد زائدة سوف تختفي أو مشاهد تكررت عدة مرات من وجهات نظر مختلفة، من شخصيات مختلفة، إنها فوضى شديدة ولكنها تتضّح عندي فقط. أنا أعتقد أنَّ ما أحبه ليس الكتابة بحد ذاتها، بل إعادة الكتابة؛ الحذف، التصحيح.. أعتقد بأنه الجزء الأكثر إبداعا في عملية الكتابة. أنا لم أعرف أبدًا متى أنتهي من كتابة قصة، فالقطعة التي أعتقد أنها ستأخذ مني بضعة أشهر، تأخذ مني أحيانا عدة سنوات لإكمالها، وبالنسبة للرواية التي تبدو وكأنها اكتملت بالنسبة لي، عندما أشعر بذلك، إن لم اسارع لإنهائها حالاً، فستستولي عليّ وتأخذ بتلابيبي. أما عندما أصل الى حد الإشباع، وحين أشعر بالاكتفاء، وحين لا أستطيع أن أستزيد منها أكثر، تكون القصة حينها قد اكتملت. موت الثقافة! في كتابه الأخير الذي صدرت ترجمته الإنجليزية في منتصف عام 2015م، "ملاحظات عن موت الثقافة"، يقدم يوسا مرثية لما آل إليه حال الثقافة في عصرنا، ونقدًا لاذعًا لها. ففي الماضي كانت الثقافة "العالية" أو الراقية بمثابة الضمير الذي يبث الروح ويرتقي بالعقول وينمي الذائقة ويقود زمام التغيير في الواقع. أما الآن فقد أصبحت إلى حد بعيد محض أداة وآلية للإلهاء والترفيه. ومن مظاهر هذا التغير السلبي التي طالت مفهوم وفاعلية الثقافة تراجع دور المثقف في الفضاء الاجتماعي والسياسي وانسحابه إلى الهامش، أو الأصح تهميشه من قبل مجتمع لم تعد الثقافة (كما ينبغي أن تكون) تعني له شيئًا. ما الذي نعنيه بثقافة الفرجة؟ إنها حضارة عالم تُضفى فيه قيمة كبيرة للترفيه، حيث يكون قضاء وقت ممتع، والفرار من الملل، هو الشغف الذي يتوحد فيه العالم. إن ذلك يؤدي لأن تكون الثقافة مبتذلة، وإلى أن يسود العبث ويؤدي، فيما يخص التغطيات الإخبارية، إلى ذيوع الصحافة غير المسؤولة المبنية على النميمة والفضائح. ليس من المفاجئ إذن أن يكون الأدب الأكثر تمثيلًا لعصرنا هو الأدب "الخفيف"، الأدب البسيط، الذي، وبدون أدنى إحساس بالخجل، يسعى لأن يكون– كهدف أساس وشبه وحيد– مسليًا. تعد روايات "البيت الأخضر" ورواية "محادثة في الكاتدرائية" التي صدرت عام 1969 ورواية "امتداح الخالة" التي نشرت عام 1988 من أشهر الأعمال الروائية ليوسا، إضافة الى رواية "حرب نهاية العالم" و"من قتل موليرو؟" و"حفلة التيس". وقد بدأت شهرته العالمية في الستينات مع رواية "زمن البطل" التي استندت الى تجربته في الأكاديمية العسكرية في بيرو، وقد أثارت الرواية جدلا في بلاده حيث أحرقت ألف نسخة منها علنا من قبل ضباط في تلك الأكاديمية.