أشعر بالفخر الشديد أنني أول من نشر مقالا حول الكاتب البيروتي ماريو بارجاس يوسا، وذلك في مجلة الهلال في عدد نوفمبر 1982، حين كان كمال النجمي رئيسا للتحرير وقد نشرت مقالات عن الكاتب في مجلات أدبية عربية عديدة. ثانيا: شعرت بالخزي الشديد حين قرأت المقالات المتعددة التي كتبها يوسا في جريدة لوموند الفرنسية في 4 حلقات، نقلا عن جريدة البايس الإسبانية، حين روي الكاتب وقائع رحلته التي قام بها إلي كل أنحاء العراق في يوليو 2003، وبصحبته ابنته المصورة مرجانة وتم النشر في أغسطس من نفس العام. جاء الإحساس بالخزي أن يوسا «وكان آنذاك في السابعة والستين» قد سافر إلي العراق يكتب عن مشاهداته للبلد العربي عقب الغزو الأمريكي، أما نحن الكتاب العرب فقد تهافت أغلبنا بالمئات علي زيارة العراق أيام كانت الطائرات تحملنا إلي المربد وفي جميع المناسبات الاحتفالية، يأخذ بعضنا مصاريف الجيب، ويعودون محملين بالهدايا، لكن أيا منا لم يذهب في رحلة مماثلة إلي العراق.. حتي الآن خوفا من الرصاصات. ترجمة رواياته كان لابد من هذه المقدمة حول يوسا الفائز هذا العام بجائزة نوبل، فهو كاتب له أهميته وتواجده في العالم، وأيضا في اللغة العربية، فأغلب رواياته مترجمة إلي اللغة العربية أكثر من مرة، وفي أكثر من ترجمة عن طريق صالح علماني، وحامد أبوأحمد، وغيرهما. وقد تدهش أن اسمه علي الكثير من هذه الترجمات مختلف، حيث ينطق باللغات الانجليزية والفرنسية علي أنه ماريو فارجاس يوسا، وفي اللغة الإسبانية ماريوبار جاس يوسا، وعلي غلاف ترجمة رواية من قتل بالومينو موليرو كتب صالح علماني إن اسمه هو ماريوفارغاس جوسا. يوسا هو واحد من الأدباء المتعددي المواهب الذين ارتبطوا بالحياة الاجتماعية والسياسية في بلادهم، وهو يذكرك بأدباء لهم ثقل فكري وإبداعي قوي. من أمثال جراهام جرين وأنطوني بيرجيس، ولا شك أن سيرته الذاتية هي جزء من إبداعه وقراءة أدبه هي أيضا تجوال في حياته، وهو حالة من الحراك الإنساني والنشاطي وفي الكتابة في مجالات متعددة، ومن الصعب فصل أي من أنشطته عن الأخري، فهو روائي، وكاتب مقال وسياسي وصحفي وشاعر، وهو بالطبع غزير الإنتاج. السيرة الذاتية إذن لابد من معرفة السيرة الذاتية فهي أيضا مسيرة أدبه، وهو المولود في 28 مارس عام 1936 في أركويبا، بوطنه بيرو وذلك في أسرة إسبانية الأصل، درس في الأكاديمية العسكرية لوينثيو برادو وهو في سن الرابعة عشرة. وقد حكي عن هذه التجربة في روايته «المدينة والكلاب» التي نشرها عام 1963. ثم درس في جامعة سان ماركوس في العاصمة ليما. وفي تلك الفترة مارس العديد من المهن كمصحح، وفي مجال السينما، وبدت رؤيته الفكرية بانضمامه إلي الحزب الشيوعي البيروفي وعمل في العديد من المجلات الأدبية في نهاية الخمسينات. وفي صحيفة «التجاري» وقد أوقظت فيه الثورة الكوبية بقيادة كاسترو الأحلام الدائمة بسيادة الشيوعية، فكان واحدا من أقرب أصدقاء كاسترو. حصل علي الدكتوراة في جامعة مدريد الإسبانية عام 1958، من خلال منحة دراسية ثم نشر مجموعة من القصص القصيرة نشرت عام 1959 باسم «الزعيم» حصلت علي جائزة أدبية قرر بعدها الإقامة في باريس. كانت الجوائز تلاحق إبداعه منذ بدايته، فحين نشر روايته الأولي «المدينة والكلاب» فاز عنها بجائزة المكتبات، وجائزة النقاد وسرعان ما ترجمت إلي عشرين لغة، وقد وصف فيها حياة عاشها إخوته الصغار اسماهم بالكلاب، وقد وصف الحياة الخاصة للتلاميذ في الأكاديمية العسكرية علي غرار رواية «تورليس الصغير» تأليف روبرت موزيل. ومنذ ذلك الحين صار يوسا كاتبا عالميا، مقروءًا تتم دعوته إلي جميع جامعات العالم لإلقاء المحاضرات، وقد وصف الحياة في إحدي الغابات البيروفية عام 1966 في روايته وفاز عن الرواية بجائزة النقد، وأيضا الجائزة الدولية الأدبية التي تحمل اسم «روميلوجا لجوس» وتتابعت أعمال الكاتب ومنها حديث في الكاتدرائية 1969، وبنطلون والزوار 1973، وقد روي سيرته الذاتية في رواية عربدة أبدية عام 1975، وقد اتضحت هذه السيرة في رواية أخري باسم «العمة خوليا والكاتب» 1977 كانت مفتاح شهرته في أوروبا خاصة فرنسا وسوف نتوقف عندها، ثم صدرت روايته حرب نهاية العالم عام 1982، والتي تدور حول الحياة السياسية في البرازيل طوال القرن التاسع عشر، وتتابعت أعماله، ومنها من قتل بالومينو موليرو عام 1986. وهي تدور حول العنف السياسي في بيرو، ثم صدرت روايته الرجل المتكلم عام 1987 وهناك لوتيحا والانديز عام 1996 التي حصلت علي جائزة بلانيتا، وكراسات الدون ريجو برت عام 1997 وحفل التيس عام 2002 والفردوس ليس ببعيد 2003 ودوران وتحولات فتاة شريرة 2006 وفي العام الماضي صدرت سيرة ذاتية أخري له تحت عنوان «أهلي في أركيبا». نشاط سياسي كما أشرنا فإن النشاط السياسي المعارض والتحولات الحادة في مسيرة الكاتب قد انعكست علي أدب الكاتب، حيث بدأ شيوعيا يبارك الثورة الكوبية، كما أشرنا وقد تأثر بثلاثة أدباء ومفكرين أوروبيين علي رأسهم كارل بوبر، وفردريش حايك، وايسياه برلين، وأسس يوسا حركة سياسية في بيرو تنادي بالديمقراطية، وفي عام 1990 دخل تجربة الانتخابات الرئاسية في بلاده كأول كاتب يدخل هذا المعترك في التاريخ وخسر في الجولة الثانية أمام البرتو فوخيموري وعقب الخسارة قرر الإقامة في مدريد وحصل علي الجنسية الإسبانية، وشهد تحولا واضحا إلي اليمين، بعد أن صار يكتب أعمدة في العديد من الصحف الأمريكية، كما كتب في جريدة البايس التي أشرنا إلي كتابته وقائع رحلته إلي العراق. نشر الكاتب مسرحية كاني والخرتيت عام 1988 ومجنون الشرفة عام 1993 كما صدرت له كتب عديدة عبارة عن تجميع لمقالاته المنشورة في الصحف، مثل لغة المشاعر وقائع نهاية القرن عام 2001، ونصف قرن مع بورخيس 2004، وقاموس العشق في أمريكا اللاتينية. أغلب روايات الكاتب مثلما أشرنا أقرب إلي السيرة الذاتية ويبدو هذا واضحا في روايته العمة خوليا والكاتب، حيث يتعرض لتجربة عاشها في الخمسينات، فنحن أمام العمة التي تحب ابن أخيها بيدرو كاماستو بكل مسلسلات الإذاعة والذي يكتب روايات ينشرها علي الناس من خلال الإذاعة، العمة لا تزال في قمة نضجها كأنثي والشاب يود الزواج بها، لكن هذا ممنوع دينيا وعرفيا، لذا فإن الأب يبذل كل جهده من أجل إبعاد الابن عن العمة. وقد مر يوسا فعلا بهذه التجربة الغريبة وهو في سن الثامنة عشرة بعد أن طلقت العمة خوليا وهي في الخمسين من العمر فدخلت حياته، ويري الكاتب أن هذه العلاقة ليست جديدة في حياة الأدباء، فقد سبق للكاتب جان جاك روسو أن ارتبط بالسيدة فرارتس وواجه الكثير من المتاعب التي تحدث عنها في مذكراته. وفي حديثه لمجلة الإكسبريس 2 فبراير 1980 يقول يوسا: أعتقد أن الأدب يبدأ حيث تنتهي السيرة الذاتية بمعني أنه لا يمكن أبدا أن نضع وثيقة حول الواقع من خيالنا. علينا أن نخرجها بالواقع، وفي بعض الأحيان علينا أن نذهب بعيدا وأنا لا أعتقد أن الخيال المحض موجود، فما دام لا يلقي الضوء علي الجلد والعظم، فهو ليس بخيال. بالنسبة لهذه الرواية فقد فكرت في كتابتها قبل فترة طويلة فيما بين عامي 1953 و1954 عندما كنت أعمل في إحدي محطات الإذاعة في ليما، هناك قابلت رجلا يكتب مسلسلات إذاعية، إنه أول كاتب أتعرف عليه ويتعامل مع المسلسلات الإذاعية بمنتهي الجدية، ومع هذا فقد كان أشبه بكاريكاتير كاتب، حيث لم تكن لديه أي خلفية أدبية، لكنه في الوقت نفسه يميل إلي الحديث عن الأدب، كان الهاتف يرن ويتحدث المستمعون في أنهم لم يفهموا شيئا من قصصه التي يؤلفها. وفيما بعد أدرك الرجل مشكلته، وبدأ في العمل المتواصل، بدأ يعد أعمالا أخري هذا الأمر دفعني إلي التعلم والتثقيف الذاتي أكثر. وحول سؤال عن مدي مطابقة هذه الرواية للواقع تكلم يوسا قائلا: إنه أجري الكثير من التغيير علي أحداث واقعية، فعندما بدأ في تأليف هذه الرواية فكر في أن يخرج بين الخيال الذي لم يعشه والواقع الذي انغمس فيه في البداية تساءلت: لماذا لا نروي هذه التجربة الخاصة لأول إنسان يقابلنا؟ فلنحاول أن نكون واقعيين، فالتجربة التي استمددت منها هذه الرواية من الممكن أن تكون واقعا، فعندما تكتب يجب أن تكون لك لغة خاصة تعمق ما ترويه. هذا عن رواية من الأعمال الأولي ليوسا وسوف نتوقف عند كتاب نشره عام 1995 بعد فترة من الحياة في الظل قضاها الرجل في إسبانيا عقب فشله في انتخابات الرئاسة، الكتاب يحمل عنوان السمك في الماء لم يكن الكتاب عملا إبداعيا جديدا للكاتب، بل هو مجلد ضخم تكلم فيه عن تجربته في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1990. وقد أجرت مجلة حدث الخميس حديثا مع يوسا في 2 مارس 1995 حول هذه التجربة، من المهم أن نقتطف بعضا منه بما يعكس العلاقة بين الكاتب والسياسي في شخص يوسا: لأنني لم أصبح مغامرا، فقد أصبحت كاتبا ربما مثل الكثير من أقراني، فنحن نكتب روايات لأننا نري فيها أكثر سلمية للحياة والمغامرة، وأن تكون لدينا حيوات مختلفة عن حياتنا. ففي الطفولة وضعتني روايات من طراز الفرسان الثلاثة وبعد عشرين عاما والكونت براجلون في حالة من التحول، ومنحتني شهوة الحياة خارج إطاري، بمعني أنني في موضوع الانتخابات، لم أكن أبحث عن المغامرة، بل كنت أمارس السياسة مثلما يمارسها الكتاب عادة بالكتابة فوق المنبر وإثارة الجدل ولم أكن أتصور قط أنني سوف أكون محترف سياسة. وقد دافع يوسا عن نفسه بأن الكثيرين من كتاب القرن الماضي قد عملوا في المجال السياسي، وعين الكثيرون منهم كوزراء لبلادهم، مثل الكاتب الإسباني خورخة سمبرون والأديب الفرنسي أندريه مالرو واعترف يوسا أن كتاب قدر الإنسان لمالرو كان سببا في تحوله إلي السياسة واعتبر أن قراءته بمثابة نقطة تحول في حياته، لقد توغل في الأحداث الكبيرة في عصره، وفي نفس الوقت كان قادرا أن يوفر لنفسه الوقت للكتابة والتفكير بصفاء جميل كنت صحفيا في باريس عندما كان وزيرا للثقافة، ولقد ظلت خطبه التي ألقاها عند نقل رفات جان مولان إلي مقبرة الخالدين وفي جنازة كوربوزية أجمل الأشياء التي سمعتها في حياتي. ومن الواضح أن يوسا قد أصيب بصدمة العمل السياسي وهو يعترف في الأحاديث التي أجريت معه أنه قد خان الأدب، وأنه كان سيتخلي حتما عنه، لو كسب في انتخابات الرئاسة وذلك مثلما حدث لزميله الكاتب التشيكي ماكلاف هافل الرئيس السابق لبلاده مما أثار الرغبة لدي الكثيرين أن يسيروا علي هداه ولكن شتان بين نتائج التجربتين.