فى " لحظة تاريخ " نتوقف مع حكاية من حكايات الزمن العربى ، و ذكريات الشيخ عبد الرحمن الجبرتى مع خمسون شهراً من رمضان ، شهدت الكثير من العنف و الفوضى و تقلبات الأحوال داخل ربوع مصر ، و ظل الشيخ على حاله طالباً للعدل . يحكى الروائى الكبير محمد المنسى قنديل فى كتابه " لحظة تاريخ " عن خمسون شهرا من رمضان لكل شهر مذاق خاص فى حياة الجبرتى و تاريخه ، مركزا على تلك " الرمضانات " الفاصلة التى لم يأت قبلها و لم يأت بعدها شبيه لها لتغير مجرى التاريخ . فقد الجبرتى بصره كمدا و حزنا على العدل الغائب ، و لكنه لم يكف عن تسجيل أحوال التاريخ ، ليسجل صعود المماليك و سقوطهم ، و علماء الأزهر الذين قادوا الشعب مرة ، و تلاعبوا به مرتين ، و أجهضوا ثورته أكثر من مرة ، و كتب عن الأشراف و المحتسبون اللصوص ، و الأغوات المرتشون ، فقراء المجاورين ، الشعراء الحالمون ، الصناجقة ، الأنبياء الكذبة ، خدام المساجد ، العربان ، الدراويش ، غراميات الهوانم ، أسعار الأسواق ، الأوبئة ، صعود النيل و هبوطه ، عمارات المساجد و البيوت ، و القنوات و الترع ، عالم هائل تشكل عبر العديد من حقب الزمن ، ولادة عسرة شارك فيها المماليك و العثمانيون و الفرنسيون و الأرناؤوط و الإنجليز . عايش الجبرتى "رمضان القهر 1799 م " ، القاهرة تحت رايات الفرنسيس و قد منيت بالهزيمة و الخوف ، و المدينة المضطربة بعد فشل ثورتها ، و برغم أن الفرنسيين أتوا بالعلماء و المطبعة ، و لكنه كان يرفض أن يأتى العدل عن طريقهم و هم غير مسلمين ، و عندما ثارت المدينة تجسد بداخله هذا الرفض ، و هو يشاهدهم و هم يضربون العزل بالمدافع ، و يقتحمون الأزهر بالخيول ، و نابليون يستولى على الأرض تلو الأخرى حتى وصل لأسوار عكا . و جاء على الجبرتى " رمضان الثورة 1800 م" عندما عجز نابليون أمام أسوار عكا ، و تسلل عائدا لفرنسا ، والانجليز و العثمانيين يحاصرون جيشه، ووصول " الأغا العثمانلى " الذى فرح به الناس على أنه المخلص و لكنه طالب الناس بدفع ثلاثة آلاف كيس لترحيل الفرنسيين ، و ثلاثة الآف أخرى لدخول العثمانلى ، فى حين ساد الوئام بين العثمانيين و الفرنسيين الذى جمعهم هدف مشترك و هو استنزاف كل درهم من الناس ، حتى اكتشف كليبر خديعة الأتراك ، و اتفاقهم مع الإنجليز ، فعندما لم يجد لنفسه مهربا آخر ، هجم على جنود العثمانيين حتى فروا هاربين . و من خيبة الأمل و قسوة الإحباط ، خرجت ثورة القهرة الثانية ، أغلقوا أبواب المدينة و أقاموا المتاريس ، و انشأوا معملا للبارود ، و اجتمع الحدادون ليصنعوا المدافع البدائية ، و بدأو القتال ، و لكن الفرنسيين ردوا بوحشية فحاصروا المدينة و قذفوها بالمدافع ،ووجد الجبرتى فى الثورة أن القوة الحقيقية للأهالى ، الذين رفضوا الخلاص على أيدى الأتراك ، و رفضوا توسط المشايخ للصلح مع الفرنسيين ، و قاتل أهالى بولاق حتى النهاية على أنقاض المدينة المحترقة ، حتى صار القتلى مطروين فى الطرقات و احترقت الأبنية و الدور ، و خيم صمت الهزيمة على المدينة المحترقة . حتى جاء سليمان الحلبى بعد شهر و نصف من إخماد الثورة ليضع حدا لوحشية كليبر ، منتقما و هو من مدينة حلب للقاهرة الباسلة . أما" رمضان الفوضى 1804 م " فجاء بدخول العثمانيين البلاد بعد انسحاب الفرنسيين على رأس موكب طويل اسموه " موكب النصر" أى نصر كان يا ترى بعد أن كسبوا معركة لم يخوضوها ، و استباحوا مدينة لم يفتحوها ؟ وفور استقرارهم أعلن القاضى التركى مصر " دار حرب " أى أن للجيش التركى حق الفتح ، و تصبح أرض مصر ملكا للسلطان ، و ثار شيوخ الأزهر على حكم القاضى الذى أعطى " فتوى شرعية " للنهب و السلب ، و أتت الفرق الأجنبية التى أحضرها الجيش العثمانى على الأسواق كالجراد ، يقتلون بلا تمييز ، و انتهكوا حرمة النساء ، و الجنود يجاهرون بالإفطار فى الأسواق ،و صارت المدينة فى فوضى مريعة . حتى ذهب الجبرتى لنقيب الأشراف " عمر مكرم " يوما يسأله عن الحل ، فإذا به يصطحبه معه لرؤية " محمد على " ، ليؤكد مكرم بعد جلستهم أن الخلاص سيكون على يد هذا الرجل . و هنا نصل مع الجبرتى إلى " رمضان الأحزان " لم يكن باقيا على العيد يوما أو يومان و يزف ابن الجبرتى " خليل " على عروسه ، و لكنه تفاجأ بعد عودته من قصر الباشا " محمد على " و هو يعمل هناك فى " الميقاتية " أى أن يكون مؤقتا للصلاة و ظهور هلال رمضان و شوال ، بخمس رجال يسدون طريقه على رأسهم " محمد بك الدفتدار " صهر محمد على ، الذى اقترب منه و طعنه ، حتى يكف الجبرتى عن التطاول على محمد على . تجمعت الأحزان على الجبرتى و أصبح غريبا على المدينة التى هدم فيها محمد على و صادر و امتلك ، و لم يترك لأهلها سوى المقابر ، و هو الذى خالف كل وعوده عندما تعهد للعلماء بتحقيق العدل بين الرعية ، و لكن كان أول ضحاياه عمر مكرم الذى نفاه ، و ذبح المماليك بعد أن وعدهم بالمجد ، ووعد الفلاحين برفع ظلم الإقطاعيين عنهم فإذا به يسلبهم كل شئ . و قال الجبرتى عن المدينة المستباحة : " انظرى إلى أولادك و هم حولك مشتتون متباعدون مشردون ، استوطنك أجلاف الأتراك و اليهود و أرذال الأرناؤوط ، صاروا يقبضون خراجك ، و يحاربون أولادك ، و يقاتلون أبطالك و يقاومون فرسانك ، و يهدمون دورك ، و يسكنون قصورك و يفسقون بولدانك و حورك ، و يطمسون بهجتك و نورك ، قضى الأمر ، و خلصت مصر لمحمد على ، و لا حول و لا قوة إلا بالله " . حاول محمد على أن يغرى الجبرتى بالمناصب تارة ، و يرهبه بالموت فى سجن القلعة تارة ، و قتل ابنه ليلقنه درسا ، و كلف الشيخ حسن العطار بكتابة تاريخ مضاد لتاريخه ، لقد دفع الجبرتى ثمن قوله الحقيقة غاليا ، و مات فى بيته حزينا مريضا فاقد البصر تقريبا ، و بعد فترة احترق منزله فى الصنادقية بصورة غامضة ، و أتى على جزء كبير من التاريخ الذى دونه و لم يكتب له أن ينشر قط ، لتتوقف يد الجبرتى عن تسجيل الحقيقة ، و يصاب التاريخ بالموت .