عاش نابليون صيف الهزيمة فى الشرق على مدى 4 أشهر من مايو حتى أغسطس 1799، وعرف فى عكا أن غريمه الأميرال الإنجليزى، سيدنى سميث، يدعم المقاومة بالسلاح والمعلومات والمؤن، وعقب وصوله إلى القاهرة فى يونيو أرسل إليه سميث عددا من الصحف التى تنشر بالتفصيل أخبار انتصارات التحالف الأوروبى الثانى ضد قواته فى ألمانيا وإيطاليا. المشكلة لم تعد فى القاهرة، لقد نقل الإنجليز والروس والعثمانيون ساحة الصراع إلى أوروبا، وفى نحو منتصف شهر يوليو تلقى نابليون من حكومة الإدارة طلبا بالعودة إلى باريس فورا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكان عليه أن يفكر فى طريقة للعودة بعد تدمير أسطوله بمعرفة الإنجليز فى أبى قير، وفكر فى استخدام القطع المتبقية من الأسطول، فأرسل بتجهيز الفرقاطتين مويرو، وكارير، وعاد إلى بلاده سرا، بعد أن أمر الجنرال مينو بتوصيل ثلاث رسائل مغلقة إلى كليبر. لم يكن كليبر يعلم بالمفاجآت التى تضمنتها الرسائل، والتى حددت مصيره الشخصى ومصير الحملة كلها فى ما بعد، كانت الرسالة الأولى تحمل قرارا بتعيينه نائبا للقائد العام فى القاهرة، وكانت الرسالة الثانية توصيات وتعليمات مطولة عن إعادة تنظيم حكم مصر على طريقة الإدارة الفرنسية، وركّز نابليون على نقل خبرته فى التعامل مع الشيوخ والوجهاء، وطلب من كليبر أن يواصل العمل بنفس الأسلوب. وكانت الرسالة الثالثة مفاجأة لم يتوقعها كليبر، فقد أخبره القائد العام أنه أرسل قبل أن يغادر مصر رسولا إلى الصدر الأعظم فى إسطنبول يعرض عليه الصلح وإعادة الصداقة والتحالف الفرنسى العثمانى، فى مقابل الجلاء التام عن مصر، جلاء يحفظ شرف وكرامة جيش فرنسا، وطلب من كليبر أن يواصل المهمة ويستكملها ويحتفظ بالسر حتى ينتهى إلى نتيجة. ويروى الجنرال مينو (حامل الرسائل) أن كليبر نظر بمرارة نحو الفراغ، وقال كأنه يحدّث نفسه: «إذن طار العصفور من القفص»، هل كان يقصد نابليون؟ أم يقصد أن أيام الفرنسيين فى مصر انتهت، وعليه أن يجد منفذا لائقا للعودة؟ (لم يفسّر مينو). كان معروفا أن كليبر جندى محترف، أوروبى لحما ودما، لا يستهويه الشرق ولا تجتذبه الهند، ويؤمن أن مجد فرنسا يتحقق على ضفاف الراين لا النيل، ولم يشارك فى الحملة إلا بسبب ولائه للجنرال بونابرت، كان حبه لنابليون أقوى من أى حسابات موضوعية، فهو الذى قال يوما فى غياب نابليون: «أيها الجنرال إنك كبير كالعالم، لكن العالم ليس كبيرا بالقدر الذى يتسع لعظمتك». تقبّل كليبر فكرة أن الحملة انتهت إلى الفشل التام، وأن مهمته الآن هى البحث عن طريق العودة إلى فرنسا بسلام وشرف. وصل كليبر إلى القاهرة نهار السبت 31 أغسطس، وكان مصمما أن يمضى فى الطريق الذى رسمه له قائده، واستقر فى منزل الألفى خلفا لنابليون، وذهب أكابر البلد من المشايخ والأعيان لمقابلة سارى عسكر الجديد، والسلام عليه، فلم يسمح بمقابلتهم، وأرجأهم إلى الغد، فانصرفوا وحضروا فى اليوم التالى فقابلهم، وحسب الجبرتى «لم يروا منه بشاشة ولا طلاقة وجه مثل بونابرتة الذى كان بشوشا ويباسط الجلساء ويضحك معهم». فى هذا اللقاء تحدّث الشيخ محمد المهدى بالنيابة عن هيئة الديوان، فأبدى أسفه لسفر الجنرال بونابرت، وأعرب عن أمله فى عدالة خلفه واستقامته، وردّ كليبر بأنه سوف يُعنَى بالعمل على سعادة الشعب المصرى، وفى الأسبوع التالى حاول أن يبدأ تنفيذ نصائح وتعليمات قائده، فخرج فى موكب كبير إلى بيت «رئيس الديوان» عبد الله الشرقاوى، ووجّه إليه دعوة للعشاء فى الليلة التالية مع الأعيان والتجار والمشايخ بقصر الأزبكية، وبعدها بيومين خرج مع الأعيان فى موكب كبير إلى بيت الشيخ السادات للاحتفال بالمولد الحسينى وسط مسيرات كبيرة مبهرة هلل لها الشيوخ، وخلع على الشيخ الشرقاوى والقاضى وغيرهما خلع سمور، لكن عامة المصريين استمروا فى مقاطعتهم للاحتفالات التى يشارك فيها الفرنسيس، وكانوا يسخرون من شجرة الحرية ويسمّونها «الخازوق».