نفذ الجنرال كليبر نصيحة نابليون، فأسرف فى تكريم المشايخ، وبالغ فى الاحتفال بالمواسم الدينية، لكن النيل أعلن احتجاجه هذا العام، وتراجع عن المرور فى أرض اجتمع عليها كبارها وأعداؤها، فنقصت مياه الفيضان وشحت المحاصيل، وزاد الغلاء، مع تصاعد التوتر عقب انتشار أخبار عن قرب وصول الوزير الأعظم يوسف باشا عن طريق الشام على رأس جيش لقتال الفرنسيين، وأخذت الصعاب تتفاقم أمام كليبر، وبدت موجة الاحتفالات السياسية والدينية التى شهدتها القاهرة كأنها «حفل وداع» لأحلام فرنسا فى المنطقة، فالجيوش العثمانية تأتى من اتجاهين فى الشرق والشمال، والأسطول الإنجليزى بقيادة سيدنى سميث، يجوب المياه المصرية من يافا إلى الإسكندرية ليعزل الفرنسيين تماما عن أى إمدادات أو محاولة للخروج، وبعد مواجهة انتصر فيها كليبر على الجيش العثمانى قرب دمياط (نوفمبر سنة 1799)، اضطر كليبر إلى قبول معاهدة العريش (يناير سنة 1800) التى اشترط فيها العثمانيون والإنجليز رحيله عن مصر خلال أقل من شهرين. ما يهمنا هو تأثير هذا النبأ على العلاقة بين المشايخ والسلطات المتشابكة التى ارتبطوا بها (العثمانيين، المماليك، الفرنسيين، والإنكليز أيضا الذين دخلوا اللعبة)، بالطبع كانت شروط المعاهدة قد تُليَت على أعضاء الديوان، وأذيع مضمونها فى منشور ألصقت منه نُسَخٌ فى الأسواق والشوارع، فبدأ الكل يعيد حساباته، على أساس خروج الفرنسيين من الساحة. لكن فجأة تغير الموقف بعد أن رفض الإنكليز التصديق على المعاهدة، وأصروا على اعتبار الفرنسيين أسرى، وعليهم أن يسلموا أسلحتهم ومعداتهم، وكانت الجيوش العثمانية فى طريقها لتسلم المواقع التى أخلتها القوات الفرنسية بالفعل، ووجد كليبر نفسه فى موقف بالغ الحرج فاشتاط غضبا، وهاجم العثمانيين، واستعاد بعض المواقع، فى الوقت الذى تحفز فيه الإنكليز لاصطياد العصفور المحبوس فى القفص منذ تدمير الأسطول الفرنسى فى «أبو قير». كان الأميرال سيدنى سميث حريصا على شنّ حرب نفسية مكثفة على كليبر بعد أن أفلت منه نابليون الذى كان يحلم بأسره وعرضه فى قفص فى شوارع لندن، لذلك ركز جهوده على إبادة الحملة وتحطيم معنوياتها، واستطاع أن يسرب للجنود الفرنسيين منشورات وصحفا تتضمن أخبارا عن فشل الحملة، وركز على خسائر فرنسا للأراضى التى دخلتها فى أوروبا، وظهر الأمر كأن المغامرة المصرية انتهت بكارثة، فقد أعلن الإنجليز أنهم لن يكتفوا بالحصار البحرى، بل يعدون جيشا بريا للزحف حتى القاهرة ليلتقى بالجيش العثمانى الجرار الذى يقوده الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا، وعرف المصريون أن بريطانيا تنسّق مع إسطنبول فى هذا الهجوم، لمحاصرة قوات كليبر بين فكَى كماشة. هذه المتغيرات الجديدة أعادت الشيوخ إلى «بيت الطاعة العثمانى»، وكشفوا عن تعاملاتهم المباشرة مع الأوامر المرسلة من قيادات الدولة العثمانية، وصار واضحا للجميع (ومنهم الجبرتى أهم شاهد على هذه الفترة) أن انقلاب المشايخ، وعلى رأسهم الشيخ السادات ضد الفرنسيس كان نتيجة تحالفات «ميكافيللية» مع القوى التقليدية التى أظهرت قوة شوكتها فى مقابل الوهن الفرنسى. ورغم وجاهة هذه الرؤية فى تفسير السلوك الفردى وتحقيق مصالح شخصية لبعض الشيوخ وكبار أفراد النخبة، لكن يصعب أن نعتمد على هذا التفسير وحده فى النظر إلى ما وراء ثورة القاهرة الثانية، لأن البعد الوطنى للثورة والعوامل التى أدت إلى قيامها تظلّ مهمة وتستحق التقدير بصرف النظر عن محاولات البعض «ركوب الموجة» واستثمار الظروف لمصالح خاصة، لهذا يجب أن لا نشتط فى تصوير ثورة القاهرة الثانية باعتبارها «فتنة» أو «تمثيلية» أخرجها عمر مكرم والسادات، وغيرهما من أجل تشتيت واستنزاف القوات الفرنسية لصالح القوات العثمانية القادمة لإعادة فرض سيطرتها على الولاية التى تبيض ذهبا للباب العالى، كما يجب أن لا نغالى فى الرومانسية الثورية التى تبنّاها بعض الكتاب المحدثين الذين رسموا صورة خيالية للثورة باعتبارها نتيجة وعى شعبى بالوطنية ومقاومة الاحتلال، وسعوا إلى «تلميع» الرموز باعتبارهم ثوارا، من دون توضيح للعبة التوازنات السلطوية التى حكمت مواقف الكثيرين. وهذا ما نعرضه غدا.