كوميديا من نوع تاني.. الضحك حقيقي من القلب.. الدراما عميقة جدا لها هدف ومغزى.. ديكور بسيط يعبر عن الأحداث.. وملابس صممت بأسلوب وبتكلفة بسيطة وببراعة في إكسابها طابع مميز يصل بإحساسك إلى عمق الموضوع مباشرا. هذا ما تستشعره حين ترى مسرحية "بعد الليل" التي صاغها وأخرجها خالد جلال لتخرج الدفعة الأولى قسم التمثيل باستوديو المواهب براعية صندوق التنمية الثقافية، في مركز الإبداع الفني. "أنت ليه بقيت كدة" عالجت "بعد الليل" سلبيات المجتمع المصري، وما ظهر في السنوات الأخيرة من حوادث تحرش، وسرقة، وغيره من ضعف الدخل لدى المواطنين، وتأخر الزواج، واضطرار الشباب إلى الهجرة للبحث عن الرزق في بلد آخر، والإشاعة، بالإضافة إلى مشكلة شفافية الإعلام وعدم تقديمه دوره الإيجابي المنوط به، وظاهرة الدعاة على القنوات الفضائية، وأيضا من المشكلات الجديدة في السنوات الأخيرة مشاكل مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. ولذلك كان العرض معالجة لسلبيات المجتمع وما طرأ من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، خصوصا بعد ثورة 25 يناير. "أنت ليه بقيت كدة؟".. جملة تقشعر عند سماعها الأبدان وخصوصا عندما تقال ممتزجة بصدق في الأداء وبصوت عالي، وقد قيلت هذه الجملة بعد عرض كل واحدة من السلبيات التي يواجهها المجتمع المصري في الفترة الحالية. "التحرش".. أظهرت المسرحية ببساطة شديدة ما يحدث في بعض وسائل النقل الجماعي وتتعرض له الفتيات، حين يتظاهر مجموعة من الشباب بمساعدة إحدى الفتيات على الصعود بعد معاناتها في إجاد وسيلة تنقلها من مكان لآخر، مخفيين الغرض الحقيقي من وراء ذلك، وهو أنهم مجموعة من الذئاب البشرية، فتكون النتيجة أن الجميع يتحرش بها، وبعد ذلك يدعون أنها هي من صعدت وتريد ذلك، والغريب أن السيدة "القبيحة" التي تستقل معهم العربة توافقهم الرأي ليكون هذا حال مجتمع يبدأ برفع صوته حتى لاتكشف جريمته، على غرار المثل الشهير "خدوهم بالصوت لايغلبوكم"، فتضطر الفتاة التي قامت بدورها "نهلة كمال" للنزول من العربة لحفظ كرامتها، وهذا يذكرنا بواقعة "ست البنات"، التي تعرت في الشارع المصري وما قاله المتحدثين في الإعلام: "هي اللي عملت في نفسها كدة"، وتنكرت منها الأحزاب الدينية التي تدعي التدين والشرف، وانقلبت الآية ليصبح المظلوم هو الظالم!!. وفي نهاية الفقرة خرجت إحدى الممثلات لتكون القاضي العادل وتقول بصوت عالي "أنت ليه بقيت كدة؟". الإشاعة.. ظاهرة لم تكن جديدة في وطننا، لكنها زادت في الفترات الأخيرة حتى طالت بالكثير من النجوم لنجد كل يوم والتالي أن فنان توفي، ثم نجد أنها إشاعة. بأسلوب ساخر قدمت المسرحية لهذه القضية، ففي البداية نرى امرأة حامل تسير هي وزوجها في الشارع وفاجأة تعرضت لآلام الولادة فهرعت هي وزوجها إلى المستشفى وهي تصرخ، سمع صوتها أحد المارين من بعد في الشارع، وهو كان المصدر الأول للشائعة عندما ظن أنها فتاة صرخت عندما تحرش بها أحد الأشخاص، ثم انتقل الخبر مضافا إليه أنه تم اغتصابها من شخصين، ثم يأتي من بعده الذي قال أن الفتاة اغتصبت من عدة أشخاص، فانتقل الخبر إلى البرامج الفضائية بأن مجموعات من الأشخاص اغتصبوا فتاة، وبعد ذلك وصل العدد إلى مئات الأشخاص اغتصبوا الفتاة!! هكذا انتقلت الشائعة وأبدع ممثلي المسرحية في عرض القضية بأسوب فكاهي جميل واتقان الأدوار لإظهار مدى تحمس الشخصيات وانفاعهم في نقل الأخبار والإضافة إليها بسهولة شديدة ورغبة في الكلام والحكي. أيضا من الفقرات الهامة التي عرضتها المسرحية، تناول مشكلة "الدعاة" على القنوات الفضائية، وإبراز مفهوم أن كل ما يحكم هذه البرامج هي المادة بالدرجة الأولى، فبأسلوب ساخر نجد "الداعية" يتحدث في الدين طبعا من وجهة نظره المحدودة والخاطئة في أحيانا كثيرة، ويحاول في حديثه الترويج لإحدى الإعلانات على الشاشة والذي يعد هو مبرر استمرار برنامجه، ناهينا عن أسئلة المشاهدين من السيدات محدودات التفكير واللاتي يسألن عن مشاكل تافهة للغاية أبدع الممثلين في إظهارها بشكل كوميدي رجت قاعة العرض بأكملها من ضحكات المتفرجين. والطريف في العرض أنه كان يظهر كل سلبية من السلبيات بطريقة كوميدية ساخرة جميلة لم تقلل من أهمية ما تهدف إليه المسرحية بمعالجة مثل هذه السلبيات، ولم تكن مبتذله كما يحدث في أغلب الأفلام التي نراها في دور العرض السينمائي في الفترة الأخيرة. الإخراج من المعروف عن المخرج خالد جلال أنه صانع النجوم، فهو يخرج طاقة الممثل الكامنة بداخله ليعرض أفضل ما عنده، وهذا ما يحدث في جميع مسرحيات خالد جلال، التي تخرج منها الفنانين نضال شافعي، سامح حسين، محمد فراج، هشام إسماعيل، ونور قدري، وغيرهم، فتلاميذه يكون لهم نصيب الأسد من الأعمال الجديدة سواء في الدراما التليفزيونية أو الأفلام أو العروض المسرحية، منهم الفنان شريف الخيام الذي كان له دورا مؤثرا في مسلسل "سجن النسا" ومن قبله مسلسل "ذات"، وكذلك الفنان محمد فراج الذي قدم بطولة فيلم "القشاش"، وسمر النجيلي التي ظهرت في مسلسل "سجن النسا"، وغيرهم،؛ ولذلك فإن ورش خالد جلال المسرحية دوما ما تساهم في الحراك الفني من خلال دفعاته من الفنانين اللذين يتخرجون من ورشه المسرحية، مكتسبين كل الخبرات الفنية وقواعد المهنة التي تؤهلم للنجومية فيما بعد. كما أن جلال بارع في اختيار أدوار فنانية، فهو يوظف كل فنان في مكانه الصحيح، فلا نجد من يقدم دور لم يكن "بتاعه"، بل كل فنان يكون نجما بدوره حتى ولو كان دورا صغيرا، يتقنه ويؤديه ببراعة شديدة. أيضا البطولة في أعماله تكون بطولة جماعية لم يبرز من خلالها فنانا واحدا وحسب، بل الجميع عنده نجوم. التمثيل قدم كل فناني العرض أدوارهم بحرفية شديدة، وكان كل منهم له عدة أدوار في فقرات المسرحية المتنوعة، ونجحوا في أن يبرزوا للمشاهد ما وصلنا إليه من سلبيات بأساليبهم المتعددة التي ظهرت في إطار فكاهي. باسنت هشام.. قدمت دور غاية في الصعوبة، فهي العفريته التي كانت توسوس للأشخاص، مثلت الدور ببراعة شديدة، صدقها المشاهد لدرجة أنه يصعب علينا فصل شخصيتها الحقيقية عن الدور، فهي وصلت في أداءها لما نراه في أفلام الرعب الأمريكية عندما يقوم فنانين قديرين مارسوا المهنة لعدة سنوات لتقديم مثل هذه الأدوار، فتلك الأدوار الخاصة جدا لا يقدمها سوى من يمتلك موهبة حقيقية. اسلام عبدالله.. نجم الغد، كوميدي يدغدغ مشاعرك، وخصوصا في أدواره التي جسد فيها المرأة، فهو مثل المرأة بمواقفها الكوميدية ببراعة شديدة لم تكن مبتذلة كما تعودنا مشاهدتها في الكثير من الأفلام السينمائية، فهذا الفنان الجميل استخدم كل احاسيسه في تقديم مشاهده وفي التعبير عن المرأة، أبرز ما قدمه في المسرحية من أدواره عندما قدم دور المرأة التي تشكو للداعية من زوجها في مداخلة تليفونية، فتعبيرات وجهها في حد ذاتها مضحكة حينما تقول له "أنا ست جميلة جدا ومقصرتش مع جوزي في حاجة علشان يخوني"!، في حين أنها امرأة بدينة جدا وهي في الأصل رجل، كانت مخارج ألفاظه طبيعية جدا أشعرتنا بأننا بصدد امرأة تتحدث بانطلاقه وبصوت عالي تلك النموذج الشائع سماعه في برامج الدعاة والتي تخلو تماما من أي دعوة. ميرنا جميل.. اتقنت أدوارها وخصوصا فقرتها التي لعبت فيها دور آنسة تتقدم للعمل دون أدنى خبرة، لكنها تتفوق على أحد الشباب المثقف الذي يتم رفضه بسبب أن المنافس له امرأة جميلة يعجب بها لجنة اختبار الوظيفة في المقابلة الشخصية. محمد مجدي.. أبرز ما قدمه شخصية المصور الفوتوغرافي، بزيه البسيط واكسسواراته التي تجسد شخصية المصور، فحول رقبته حقيبة كبيرة نكتشف بعدها أنها ألبوم صور، كما يحمل على كتفه كاميرا التصوير الكلاسيكية القديمة ذات الثلاث أرجل من زمن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.. كان دور مؤثر للغاية، فحينما أراد استخدام آله التصوير رفضت الكاميرا ألتقاط الصور للواقع الذي نعيشه الآن، فبدأ في حوار من طرف واحد مع آله التصوير معاتبا أياها، وفي أحيانا أخرى موجها كلامه إلى الزمن الحالي، ثم فتح حقيبته لنجدها عبارة عن ألبوم صور كبير عرض منه الصورة تلو الأخرى، مكملا منولوجه السابق مع الكاميرا، ومعلقا على كل صورة والتي كانت تحمل معنى، منها ما يعود بنا إلى زمن الفن الجميل، ومنها ما يعود بنا إلى الأدباء، أو كبار العلماء والنوابغ من مصر، وفعود ويوجه كلامه إلى الكاميرا مشفقا عليها لأننا أصبحنا نرى الصور السلبية في كل ما حولنا، وأن الكاميرا لها كل الحق في أن ترفض تصوير هذا الواقع. نور قدري، محمد عز، سارة إبراهيم، توني ماهر، جيهان الرازي، أحمد سالم، إسراء الصابوني، أحمد هاشم، وفاء الشرقاوي، سعاد الهواري، مو مجدي، باهر الشافعي، ماجد الشريف، دينا هريدي، عصام زيدان، نهى طاهر، ايليا نادر، رانا هريدي، جاسر مصطفى، نوري الحافظ، محمود خالد، أسما عبدالله، أحمد ممتاز، بيشوي عادل، فرح محمد، عصام متولي، ومحمود الليثي، هم فريق عمل المسرحية الذي قدم كل منهم دوره بصدق شديد وبحرفية عالية. الديكور صمم ديكور المسرحية ندى عبدالحميد وعمر رأفت، اللذان قدما ديكورا بسيطا عبر عن دراما العمل المسرحي، وساعد في أبراز موضوع المسرحية بأقل الإمكانيات؛ حيث كانت المقاعد مصنوعة من "القش"، خفيفة الوزن يسهل حملها لسرعة التغيير بين المشاهد المختلفة للمسرحية بعد أطفاء النور بين الحين والآخر. وبالرغم من صغر حجم المسرح إلا أنه استوعب عدد الممثلين الكبير جدا الذي وصل إلى 32 مشارك في العرض، واللذين كانوا يصعدون جميعا للعرض في آن واحد، فكان هناك درجات في المسرح أضافت أبعاد مختلفة للمشهد، وساعد الديكور على حركتهم بسهولة، كما لعبت الإضاءة دورا بارزا في العرض، وفي إظهار أبعاد متنوعة للمشاهد، حققتها الإضاءة الخافتة في الخلفية والتي ضمت أعداد الفنانين الكبيرة، وعكسها من شدة الإضاءة التي ظهرت في مقدمة المسرح، أو وضع الممثل في دائرة ضوء عندما يريد التركيز على الحدث، مثل مشهد المصور الفوتوغرافي السابق ذكره، عندما كان يستعرض ألبوم الصور، كان في مقدمة المسرح بداخل دائرة من الضورء. وامتد الديكور لجدران المسرح حيث رسم على الحوائط السوداء اللون بعض العبارات التي كان لها التأثير في المسرحية مثل "أنت ليه بقيت كدة؟. الملابس كانت عبارة عن أقمشة من لون واحد "البيج" المقصوصة والملفوفة حول الجسد في تصميم فني جميل، فلم يشوش الزي بلونه المحايد على المشاهد، بل صب التركيز بأكمله على المضمون الدرامي، وكان اختيار صائب من المصممة تغريد عز الدين، ومنفذة الأزياء خيرية حسين. ولم تظهر إكسسوارت بارزة في المسرحية سوى في مشاهد قليلة عملت على توصيل المعنى للمشاهد، مثل لفات الشعر الملونة التي كانت بشعر الفتاة التي تجلس في منزلها ودخل عليها لص من شباك المنزل، ساعدت المتفرج على الاقتناع بأن الفتاة تجلس في منزلها وتلفلف شعرها كما يفعل أغلب الفتيات في بيوتهم. كان عرضا مسرحيا ملفت للانتباة، قدم قضايا تصاعدت في المجتمع وتحتاج التكاتف مع كل أجهزة الدولة لمعالجتها، وهنا يبرز دور الفن والمسرح بشكل خاص في مكافحة مثل هذه السلبيات التي تناولتها المسرحية، بأسلوب جميل وبموهبة عالية لشباب الفنانين، وبضحكة حلوة، وإخراج ملم بكل العناصر لإبراز المعنى.