كلما استغرقنا الليل وطال بنا.. كلما اشتد سواده، كلما كان علينا تذكر أن هناك نهارا يأتي "بعد الليل"، لكن الليل أحيانا تنسجه عفاريت الظلام وتزيد حلكته، فإن عرفنا أين يكمنون فأزحناهم أفسحنا للنهار ضوءا. هكذا نسجت فكرة العرض المسرحي "بعد الليل" إنتاج الدفعة الأولى من استوديو المواهب بمركز الإبداع الفني، الذي يقدم حاليا على مسرح مركز الإبداع بدار الأوبرا، ويشترك به 33 ممثلا وممثلة، وهو صياغة وإخراج خالد جلال، وتصميم ديكور ندى عبد المجيد، وعمر رأفت، وإضاءة وصوت أسامة فوزي، ووليد فوزي. في جو مجرد يبدأ بإيحاء بمقبرة، يقدم العرض على مسرح بلا قطع ديكور تقريبا وإن وجدت فخفيفة متنقلة عبارة عن حزم مضغوطة من القش تستخدم كمقاعد أو أسرة، وأرض مفروشة باللون البرتقالي، وسلالم متفاوتة الأحجام والارتفاع تساعد على تنويع الإيقاع البصري والحركي، مع كتابات وأشكال فوسفورية على جداري المسرح الجانبيين بخلفية سوداء، حيث رسمت أشكال ورموز طفولية مختلطة في زحام.. مجردة، منها ما يصور شخصا مشنوقا أو مشانق منفردة، أو خطوطا لألعاب معروفة مع أرقام وعمليات حسابية، وبعض عبارات مكتوبة مكررة على كل جانب وفي الجانبين مثل "إيه وصلك لكده"، "إنت مين؟ هي مين؟ هما مين؟"، "ليه؟"، لتبدأ المسرحية وهي عبارة عن مجموعة من اللوحات المنفصلة لمواضيع مختلفة لكنها تصب في مشكلة ومعنى واحد يتضح مع التتابع في النهاية. تلفت النظر من بداية العرض لنهايته الأزياء التي ظهر بها الممثلون وهي أشبه بالكفن أو بأقمشة التحنيط، والتي صاغتها ببراعة مصممة الأزياء تغريد عز الدين، فالجميع ملابسهم من نفس القماش لكن التصميم يختلف من شخصية لأخرى، وتمتد خيوطا من القماش تلفهم جميعا في بعض المشاهد، فالجميع أموات في زي الحياة أو أحياء في زي الموت، بالإضافة لما يعنيه ذلك من تنميط وتعليب بشري، ويبدأ المشهد الأول بجمع الكثير من الأفكار والتصرفات الخاطئة والسلبية معا من خلال جمع شخصيات ترتكبها أو تمثلها مع تبريراتها كالتحرش والسرقة والرشوة والتطرف والتسيب وحتى السلبية، ويأتي بهذا المشهد السؤال الذي يتكرر بعد ذلك طوال العرض: إنت مين؟، إيه اللي وصلك لكده؟، ويعني في الحقيقة: "ما أوصلك لهذا الموت؟"، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من المشاهد القصيرة سريعة الإيقاع متنوعة الانفعالات بطابع عام حيوي يمتاز بتعبيرات الممثلين المرنة وجها وجسدا، في قالب كوميدي غالبا، فنجد لوحة عن التحرش المتعمد في المواصلات توضح سهولة رمي الفتاة بأي إثم إن استجابت أو لم تستجب بمن في ذلك النساء، فهن جزء من قهرهن، ويتكرر السؤال السابق، وتظهر شخصية فتاة في هيئة جنية أو عفريتة وقد أجيد بالفعل رسم أدائها وماكياجها وأدت الدور بإجادة بسنت هشام، هذه العفريتة تغذي وتسهل لهم الانحدار والشر طوال العرض وتكرر كذلك جملة: "وزع فقر"، وكأنها مفتاح الشر.. فالعوز والاحتياج باب لدخول هذا الشيطان لنفوس الجميع وارتكاب جرائمهم الأخلاقية، ومن اللوحات الأخرى الكثيرة لوحة عن التطرف الديني المتوازي مع الجهل الديني من خلال استعراض فتاوى لشيخ متطرف إلا أنه جاهل دينيا، واستعراض فساد الناس ونفوسهم مع أسئلتهم السطحية في الفتاوى، أما الأرقام التي على الجدارين فنفهم أنها حسابات المعيشة للأفراد من خلال شاب يفند مرتبه بكوميديا لينقلب الأمر لبكاء في نقلة تثير الألم بعد ضحك بأداء تفوق فيه محمود الليثي، ولا يترك العرض ما أحدثته التكنولوجيا من تشوه في الشخصيات والنفوس من خلال فتاة تغيرت شخصياتها وجفت عاطفتها تحيط الأسلاك بملابسها، وقد أدت دورها ببراعة نور قدري، ثم يأتي مشهد أراه من أهم المشاهد حيث يصطف فيه عدد كبير من الممثلين كل منهم يمثل فئة ما كالثائر أو الألترتس أو الأمن أو الأهلي أو الزمالك أوالمتطرف، فينقسمون إلى نصفين كل نصف ضد الآخر وكل منهم يرمي الآخر بكلمة "متطرف".. فالجميع باتوا كذلك. وهناك مشهد بسيط لكنه يلقي الظلال على التغير الاجتماعي والإنساني للأسوأ من خلال مصور ترفض آلته التصوير، فيفسر ذلك بأن لا شيء أصبح يستحق التصوير، مع لوحات عن الوساطة وفساد التعليم والعنوسة لضيق يد الشباب، والسرقة والبلطجة التي زادت، وتفاوت الطبقات والمستوى المادي، وانتقاد إعلام الإثارة الذي يساعد على تفشي الإشاعة وتضخيم الأخبار باشتراك مع المجتمع نفسه، ليظل السؤال: "إيه وصلك لكده؟" من السلبيات الاجتماعية، حتى يجتمع الجميع لقتل شيطانهم والتخلص من "العفريتة"، حيث يلقي العرض ظلا لتفسير وجود الشر، وأنه قد ينبع من الداخل لا الخارج فقط، فما "عفريت إلا بني آدم". نجح العرض في تقديم وجبة متكاملة العناصر مضبوطة الإيقاع عمادها التمثيل الذي أجاده الجميع بمرونة، وتنقّل بين الأدورا وتغيرها مع تألق جمال العمل الجماعي، ومن إجادة عامة للتمثيل يمكن أن نخص كلا من إيليا نادر "المدرس"، أحمد هاشم "اللص"، ميرنا جميل "المدرسة"، وسارة إبراهيم، ومحمد مجدي، وحسام إبراهيم، ومحمد عزت، وإسلام عبد الله، وتوني ماهر، والجميع.