استغاثات سجناء الرأي في اليوم العالمي لحقوق الإنسان
* د. سعيد الشهابي
د. سعيد الشهابي جميل ان تخصص الأممالمتحدة العاشر من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام يوما عالميا لحقوق الإنسان.
ولكن الأجمل من ذلك ان تتجاوز هذه المنظمة الدولية لغة الخطاب السياسي المفرط في الدبلوماسية والمجاملات وتتبنى أدوات فاعلة للحد من الانتهاكات المتواصلة لهذه الحقوق من قبل الدول الأعضاء.
ومفيد ان تنتشر ثقافة حقوق الإنسان بين الشعوب، لكي تعي كيف يعيش الناس آمنين على أنفسهم وحرياتهم وتصان كرامتهم، ولكن الفائدة الكبرى تتحقق عندما تنتشر ثقافة رفض مرتكبي جرائم حقوق الإنسان ومطاردتهم بشكل جاد، ومعاقبتهم وفق القانون ليصبحوا عبرة لمن تسوله نفسه بانتهاك تلك الحقوق.
وضروري ان تستمر الأممالمتحدة في تبني حقوق الانسان كمشروع يحظى بأولوية على الصعيد الدولي وتخصص له الموازنات والإمكانات البشرية وتروج ثقافته كأساس للتعايش السلمي بين العنصر البشري.
ولكن الأكثر ضرورة ان تتوفر للأمم المتحدة او الجهات القضائية او المنظمات الحقوقية الدولية الأنياب التي تمكنها من اتخاذ إجراءات صارمة بحق الحكومات والمؤسسات والأفراد اذا انتهكت حقوق الإنسان في بلد ما.
خصوصا اذا توفرت الدلائل على ممارسة التعذيب كسياسة ثابتة من قبل اي نظام سياسي. فمنذ ان تبنت الجمعية العمومية في العاشر من كانون الاول/ديسمبر من 1948 الإعلان العالمي لحقوق الانسان استبشر قاطنو هذا الكوكب خيرا.
وتجذرت آمالهم بحتمية انتهاء العصور السوداء التي شهدت ابشع انتهاكات حقوق البشر، خصوصا في ظروف الحربين العالميتين.
وعلى مدى العقود الستة اللاحقة تواترت الجهود لتحويل الاعلان العالمي الى مشروع حضاري تتبناه الدول وتصادق عليه بتضمينه في دساتيرها وقوانينها. وقد أقرته اغلب دول العالم، مع اختلاف في ما بينها حول مدى عمق المصادقة عليه.
وتم التوسع في العقود اللاحقة لتحويله من اطر عامة الى قوانين محددة يختص كل منها بجانب من مواده الثلاثين التي ما تزال تمثل أملا للباحثين عن عالم متوفر على قدر من الحقوق الانسانية المشروعة. فصدرت عهود ومواثيق ومعاهدات للتعاطي مع مصاديق الانتهاكات.
ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإعلان الأممالمتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
والعهد الدولي لمكافحة التميز العنصري وإعلان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان واعلان حقوق الطفل واتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
ونحن على اعتاب الذكرى الثانية والستين لذلك الاعلان، ما الجديد في المشهد الدولي في هذا المجال؟
كيف يمكن تقييم اوضاع حقوق الانسان في العالم؟
وهل انها حقا في تطور ام ان النظام السياسي العالمي فقد الحماس لتوفير مستلزمات ضمان تلك الحقوق ومنع الانتهاكات؟
ويمكن ملاحظة ثلاث حقائق مهمة قبل اصدار احكام مبرمة.
اولاها: أن العقد الماضي شهد تراجعا ملحوظا في حماية تلك الحقوق، وان من اكبر منتهكي تلك الحقوق عددا من الدول 'الديمقراطية' التي يفترض ان تكون اكثر اهتماما بها.
ثانيتها: أن الاممالمتحدة، هي الأخرى، أصبحت أقل حماسا لصيانة تلك الحقوق لاسباب عديدة من بينها ان المنظمة الدولية انما تتألف من انظمة سياسية غير متحمسة لاحترام الحقوق الاساسية لشعوبها.
ثالثها: ان الأوضاع الأمنية في ظل تصاعد الإرهاب الذي تمارسه بعض المجموعات والحروب التي تشنها دول كبرى مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا و'إسرائيل'، وتراجع الأوضاع الاقتصادية في هذه الظروف، ساهمت في إضعاف أولوية الملف الحقوقي على الصعيد الدولي.
ويكفي للتدليل على ذلك ما شهده العالم من انتهاكات الصور البشعة للمعتقلين في سجون غوانتنامو وابوغريب وقاعدة بغرام الأفغانية.
وما يحدث يوميا في سجون الاحتلال الصهيوني لأبناء فلسطين المرتهنين. والأنباء التي تسربت في السنوات الخمس الاخيرة عن رحلات الطيران السرية بين السجون التي تديرها الاستخبارات الأمريكية في ثلاثين بلدا، وما يمارس في تلك السجون من انتهاكات على نطاق واسع أصابت العالم الحقوقي في مقتل.
وقد جاءت الصفعة الاخيرة لجهود حقوق الانسان بعد تطورين مهمين في الاسابيع الاخيرة:
اولهما اعتراف الرئيس الامريكي السابق، جورج دبليو بوش، انه هو الذي أمر بممارسة اسلوب الايهام بالغرق waterboarding لاجبار المعتقلين لدى السلطات الامريكية على الاعتراف. وهناك اجماع بين المنظمات الحقوقية الدولية على اعتبار تلك الممارسة تعذيبا بدون إشكال.
وثانيها: ما تسرب من الوثائق الامريكية عبر موقع 'ويكيليكس' التي تؤكد اساءة معاملة المعتقلين في السجون التي تديرها القوات الامريكية في العراق، سواء على ايدي العراقيين ام الامريكيين.
هذه التطورات اعادت اوضاع حقوق الانسان مسافة طويلة الى الوراء بعد عقود من الجهود المتواصلة لتطويرها ومنع الانتهاكات.
الواضح ان هناك غيابا ملحوظا للامم المتحدة عن القيام بدور ملموس في منع تلك الانتهاكات او ملاحقة مرتكبيها. هذا الغياب يعتبر عامل تشجيع للمعذبين للاستمرار في ممارساتهم.
فلو كان للمنظمة الدولية او اية جهة حقوقية دولية او هيئة قضائية مستقلة سلطة حقيقية من جهة وحماس لمطاردة مرتكبي جرائم التعذيب من جهة أخرى لصدر امر قضائي بمطاردة الرئيس الأمريكي خصوصا انه ترك منصبه ولم تعد له حصانة دبلوماسية. فاعترافه الشخصي في مذكراته وفي مقابلاته كافية لادانته.
ولكن تقاعس المجتمع الدولي في اتخاذ موقف كهذا لا يساهم في جهود التصدي للانتهاكات.
ولذلك يشعر الحكام الآخرون بوجود 'حصانة' تلقائية تحميهم من اية مقاضاة قانونية عندما ينتهكون حقوق مواطنيهم، بالاعتقال التعسفي او التعذيب او القتل خا رج اطار القانون.
ولو كان الرئيس المصري يخشى من مطاردة قانونية لأمر بمقاضاة المسؤولين عن قتل الشاب خالد سعيد الذي توفي نتيجة التعذيب الذي تعرض اليه بعد اعتقاله في شهر حزيران/ يونيو الماضي.
فمن المؤكد ان ممارسة التعذيب من بعض اجهزة الامن الغربية كما تفعل الاستخبارات الامريكية مع المشتبه بهم في قضايا الارهاب.
وصمت هذه الدول على ممارسات حلفائهم ضد المعارضين، كما تفعل اجهزة الامن لدى الكيان الاسرائيلي او مصر او البحرين، كل ذلك يعتبر حماية لتلك الاجهزة، الامر الذي يشجعها على الاستمرار في تلك الممارسات.
وفي الشهر الماضي حضر مسؤولون من سفارات اربع دول غربية، الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا والسويد، جلسات محاكمة 25 شخصا من المعارضين البحرانيين، واستمعوا لشهادات المتهمين على مدى ثلاث جلسات.
وبرغم شكاوى هؤلاء من التعذيب، بما في ذلك الاعتداء والصعق الكهربائي والتعليق على طريقة 'الفلقة' فلم تفعل حكومات هذه الدول شيئا. وهنا تتضح بجلاء ظاهرة ازدواجية المواقف والسياسات الغربية ازاء القضايا ذات البعد الدولي.
ومن ذلك تبرز ابعاد ثلاثة ذات أثر مباشر على تحديد السياسات والمواقف الغربية ازاء قضايا حقوق الانسان: سياسيا وامنيا واقتصاديا.
فما دامت الدول مصنفة ضمن 'الدول الصديقة' فانها مستثناة من الضغوط السياسية لتطوير انماط حكمها، ويندر ان يوجه انتقاد لهذه الدول برغم غياب الممارسة الديمقراطية التي تسمح بشيء من التمثيل الشعبي في صنع القرار السباسي.
وما دام هناك 'تهديد امني' من قبل 'الارهابيين' فان استعداد هذه الحكومات ل 'التعاون في مكافحة الإرهاب' يجعلها مستثناة من النقد السياسي ولا تخضع للرقابة ازاء ما تمارسه داخل حدودها، وان انتهكت حقوق مواطنيها. اما البعد الثالث فيتمثل بالبعد الاقتصادي.
ويبدو هذا البعد في الوقت الحاضر من اكثر العوامل تأثيرا على المواقف الغربية وصياغة السياسات الدولية. فنظرا للوفرة المالية لدى دول مجلس التعاون نتيجة ارتفاع اسعار النفط في السنوات الاخيرة، وضعف الاقتصادات الغربية بسبب تبديد الاموال في الحروب وحالة الترف المفرط لشعوبها، وتراجع اداء المصارف التي تعتبر اهم ركيزة للنظام الرأسمالي، فقد توجه الغربيون للدول النفطية بشكل غير مسبوق.
وفي قمة لشبونة الاخيرة قرر الاتحاد الاوروبية تمتين العلاقات مع دول الخليج. الهدف واضح، فالعلاقات السياسية بين الطرفين كانت، وما تزال، ذات ابعاد استراتيجية.
اما الجديد فهو الوفرة المالية المتوفرة لدى هذه الدول والمطلوبة بشكل ملح للاقتصادات الغربية المتداعية. في هذا الخضم تحتل حقوق الانسان موقعا متراجعا جدا في السياسات الدولية، فهي مسيسة من البداية، وخاضعة للاعتبارات والمصالح الاقتصادية ثانية.
ومرتبطة بما يسمى 'التعاون في مجال مكافحة الارهاب' من جهة ثالثة. فكيف يمكن ان تتطور هذه الحقوق في ظل هذه الاعتبارات مجتمعة؟
الأممالمتحدة تسعى، في إطار خطتها للاحتفاء باليوم العالمي لحقوق الإنسان هذا العام لترويج 'حماية المدافعين عن حقوق الإنسان' وهو القرار التاريخي الذي أقرته الجمعية العمومية للامم المتحدة في آذار/مارس 1999 بحماية نشطاء حقوق الإنسان.
هؤلاء النشطاء تعرضوا، وما يزالون يتعرضون، لقمع السلطات في بلدانهم بسبب نشاطهم في الدفاع عن حقوق الانسان في بلدانهم.
فهم الذين يسلطون الاضواء على ممارسات حكوماتهم، وبالتالي فهم، حسب منطق تلك الحكومات 'يحرضون' ضدها، ويستحقون العقوبة.
من هنا اثمرت ضغوط هؤلاء النشطاء وادت الى تبني القرار المذكور، الذي بقي، كغيره، غير ذي شأن، بينما اضطهد النشطاء واعتقلوا وعذبوا.
المنظمة اعلنت انها سوف تهتم بحماية هؤلاء، ولكن ما السبيل لذلك في غياب الارادة السياسية من جهة ووسائل الضغط القادرة على إلزام الحكومات باحترام حقوق مواطنيها خصوصا المدافعين عن تلك الحقوق من جهة اخرى؟
المشكلة تنطلق من حقيقة تستحق اعادة النظر بشكل جاد، وهي ان الاممالمتحدة انما هي جسد يضم الدول وليس المنظمات غير الحكومية.
تلك الدول هي التي تصوغ القوانين والسياسات، بينما لا تحظى المنظمات غير الحكومية سوى بصفة المراقب في افضل الاحوال.
وبالتالي فالقرارات المرتبطة بحقوق الانسان انما تنطلق عن رغبة الحكومات. فهل من المعقول ان تقنن هذه الحكومات ما يدينها؟
الاممالمتحدة، بسبب بنيتها السياسية، اضعف من ان تواجه مرتكبي جرائم التعذيب، نظرا لغياب الارادة السياسية والامكانات العملية والتركيبة الادارية.
وكل ما تستطيعه، حتى الآن، إصدار القوانين والسياسات العامة، وتأكيد الاطر الاخلاقية التي يجب ان تنظم علاقات الحكام بالمحكومين، ولكنها تفتقد لأدوات التنفيذ، وآليات المراقبة، ووسائل مساءلة الانظمة المخلة بالتزاماتها.
كما ان موظفيها، كغيرهم، عرضة للفساد المالي والإداري، الامر الذي ادى في السابق الى شراء مواقفهم من قبل الحكومات التي تنتهك حقوق مواطنيها.
المطلوب، اذن، ليس المزيد من القوانين التي ترفع معنويات ضحايا القمع السلطوي فترة محدودة، بل توفير الذراع الضاربة التي تؤهل المنظمة الدولية لممارسة دورها في الرقابة على السجناء بشكل دوري، وفحص السجون بانتظام، ومساءلة المتهمين بارتكاب جرائم التعذيب.
مطلوب منها توفير فرق عمل ميدانية في الدول التي تعانى من توترات سياسية واضطرابات حقوقية، بشرط ان تكون قادرة على النهوض بأعباء رقابة تلك الأنظمة ومحاسبة مسئوليها بشكل جاد. فإذا شعر المعذبون أنهم سوف يواجهون محاكمات دولية صارمة، فسوف يكون ذلك رادعا لهم عن ارتكاب تلك الجرائم.
اليوم العالمي لحقوق الإنسان مناسبة لإعادة النظر في ما هو قائم من قوانين وتشريعات دولية تنظم قضايا حقوق الإنسان على كافة الأصعدة، وتسعى لإعاقة سياسات التعذيب بوسائلها الخاصة، والتلويح بالمحاكم التابعة للأمم المتحدة كآليات مناسبة لاتخاذ إجراءات ضد الأنظمة التي تمارس الانتهاكات.
ومن المطلوب أيضا تجريم تلك الممارسة، واعتبار رأس الدولة نفسه مسئولا عن اية انتهاكات حقوقية تحدث في معتقلاته. فبرغم ما يشاع عن وصول العالم الى مستوى راق من احترام حقوق الإنسان، والالتزام بالعهود والمواثيق الدولية.
فإن ما يجري في الشرق الأوسط، ابتداء بالكيان الإسرائيلي مرورا بجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية والبحرين، من انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان وممارسة التعذيب على نطاق واسع، والحرمان من ابسط حقوق المواطنة.
وفقدان القدرة على تغيير الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، يعتبر عارا في جبين الإنسانية، ومؤشرا خطيرا لفشل الاممالمتحدة في النهوض بمسؤولية منع الانتهاكات.
وما الضغوط الحثيثة على بريطانيا في الوقت الحاضر لتغيير قوانينها التي تسمح بمقاضاة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية (في ضوء محاولات اعتقال عدد من المسئولين الإسرائيليين المتهمين بتلك الجرائم) الا مؤشر لضرورة تطبيق تلك القوانين وتطويرها.
إن من الضروري دعم مشاريع الترويج لحقوق الإنسان، كثقافة وممارسة ووعي والتزامات، ولكن الأهم وجود آليات دولية لضمان القدرة على تنفيذ العهود والمواثيق والمعاهدات الدولية.
فما جدوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، برغم توقيع اغلب الدول عليه، اذا لم تتوفر لدى الجهات الحقوقية المعنية، القدرة على ممارسة الرقابة على ما يجري في البلدان، ومحاسبة المسئولين عن تلك الانتهاكات بشفافية وإصرار؟
فصراخ ضحايا التعذيب، ومعاناة ذوي الحقوق المدنية او الإنسانية المهضومة، تصك الأسماع ولكنها لا تجد صدى، بينما تكتظ صفحات الجرائد الصفراء بالادعاءات الجوفاء والوعود غير المبرمة التي تطرحها السلطات لتلميع صورتها أمام العالم.
في عالم يهيمن عليه الاقوياء عسكريا واقتصاديا، خفتت أصوات المصلحين، وعذب المعارضون، وسلبت الحريات، وانتهكت الحقوق.
فالى متى يتجاهل العالم استغاثات سجناء الرأي؟
ومتى تستفيق الإنسانية من هذا السبات الأخلاقي المدمر؟
إن لم يكن اليوم العالمي لحقوق الإنسان جرس الإنذار وفرصة الاستيقاظ فسوف يتواصل الاستبداد والقمع والطغيان، وستظل الإنسانية أسيرة لدى الطغاة والظالمين والمحتلين والمعذبين.
*كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن جريدة القدس العربي 8/12/2010