عبده مباشر يعلم الجميع, خاصة من درسوا القانون, أن الحكم هو عنوان الحقيقة, وبالتالي فإن الحكم الصادر ببراءة المتهمين في قضية عبارة الموت هو عنوان الحقيقة, وليس لأحد أيا كان أن يشكك في نزاهة القضاء المصري, أو في رجاله الشرفاء. ومع أن براءة المتهمين الذين حوكموا, وعلي رأسهم ممدوح إسماعيل مالك الشركة التي تملك العبارة, ونجله, هي الحقيقة مصداقا لحكم القضاء في هذه القضية, فإن هناك حقائق أخري واضحة وضوح الشمس, فهناك عبارة كانت تحمل أكثر من ألف راكب ابتلعتها مياه البحر الأحمر, وابتلعت معها أكثر من ألف من الضحايا الذين لا ذنب لهم, والذين ستطالبنا أرواحهم بالبحث عن المسئول وتقديمه للقضاء للقصاص منه. هذه الحقيقة المؤلمة والكارثة التي يجب أن تعد كارثة وطنية ترتبط بها مجموعة أخري من الحقائق, في مقدمتها التسليم والاقتناع بأن العبارة لم تكن صالحة, وإلا ما غرقت بهذه الصورة, وهناك, كما هو معروف, مسئولون عن إصدار تراخيص الصلاحية, ومسئولون آخرون مهمتهم التفتيش الدوري علي مثل هذه السفن والعبارات. وإذا كانت التقارير الفنية التي تم إعدادها تشير إلي قصور في هذه الإجراءات, فمن هم المسئولون عن هذا التقصير؟ ثم توضح التحقيقات أن العبارة كانت تحمل علي ظهرها أكثر مما هو مسموح به, سواء من البشر أو البضائع, وهنا نعود للسؤال: من المسئول؟ أم أن الركاب صعدوا إلي ظهر العبارة بدون حصر, وكل واحد وشطارته؟! وإذا ما انتقلنا إلي المسئولية المباشرة وغير المباشرة, فمن هم المسئولون المباشرون عن الكارثة؟ ومن هم الذين يتحملون المسئولية غير المباشرة؟ إن الحساب لابد أن يشمل هذا وذاك, وإذا لم يحدث ذلك خلال المرحلة الثانية من التقاضي, فإن لنا الحق كل الحق أن نواصل مشوار البحث عن هؤلاء المسئولين. وستظل أرواح أكثر من ألف ضحية تطالب بالقصاص ومحاسبة المسئولين, كل المسئولين, وألا يفلت منهم من يملك القدرة علي الإفلات. وليس من المنطقي أو المعقول أن يحاكم سارق الدجاج, وأن يفلت الحيتان دون مساءلة. ومازالت الذاكرة تحمل قصص إفلات الحيتان, أو حيتان الملايين, أو مئات الملايين, وذلك منذ هرب توفيق عبدالحي, وهدي عبدالمنعم, وحتي هرب ممدوح إسماعيل. ومن هؤلاء كثيرون تلقوا مساعدة من أهل القمة والمسئولية للإفلات, ومنهم من تلقي المساعدة قبل صدور قرار أو حكم المنع من السفر, ومازالت ملايين الجنيهات التي هربوا بها, أو ملايين الدولارات موضوعا لعقد صفقات بين بعضهم وبعض البنوك حتي يمكن استعادة نسبة من هذه المبالغ. وإذا كنا قد عشنا غرق هذه العبارة وابتلاع مياه البحر الأحمر لأكثر من ألف ضحية, فإنها لم تكن العبارة الأولي التي تغرق, فقد سبقها غرق عبارات أخري, وعقب كل كارثة يتعالي صوت المسئولين عن تشديد الإجراءات, والتدقيق في التفتيش, وعن محاسبة المسئولين, وعن تسيير عبارات جديدة وحديثة بدلا من تلك المتهالكة. وبعد أن تتبخر هذه التصريحات الضخمة, وتنحسر الأضواء عن الكارثة, نفاجأ بكارثة أخري, حتي كانت هذه الكارثة التي أودت بحياة هذا الرقم الكبير الذي يعد الأكبر منذ غرق الباخرة دندرة في النيل يوم شم النسيم, وكانت قد غرقت أيضا بسبب الحمولة الزائدة أساسا( لاحظ الحمولة الزائدة) منذ أكثر من45 عاما, وبما يعني أننا نعيش ونعايش هذه السلسلة من الكوارث منذ غرق دندرة, ولم تقتصر الكوارث علي غرق البواخر والسفن, بل امتدت للمعديات بالنيل, كما شملت الطائرات, والقطارات, والأتوبيسات, خاصة السياحية, وسيارات النقل الثقيل وغيرها, ومنذ فترة لم تعش مصر أسبوعا دون أن نسمع أخبار كارثة جديدة من كوارث وسائل النقل والمواصلات. وأمام كثرة كوارث الطرق, وصفها البعض بنزيف الأسفلت, وهذا النزيف المستمر لم يتمكن مسئول من إيقافه, وبالطبع لا يمكن تحميل المسئولية كاملة للسلطة, أو لومها علي أوجه القصور التي أدت إلي وقوع هذه الكوارث, فهناك جانب عظيم من المسئولية يتحمله الناس, فكيف يقبل سائق سيارة نقل ثقيل أن يتحرك علي الطريق وهو يعلم أن السيارة بلا فرامل, أو بفرامل ضعيفة؟ وكيف يعجز صاحب أسطول للنقل عن صيانة سيارات هذا الأسطول بشكل فعال ومستمر, حفاظا علي أرواح الأبرياء من الناس؟ وكيف يتصور سائق أتوبيس سياحي أنه قادر علي القيادة وهو نائم.. أو فلنقل في حالة متقدمة من الإجهاد؟ وكيف تسمح إدارة شركة نقل أو سياحة للسائق بالعمل أكثر من19 ساعة؟ وهناك جانب من المسئولية يتحمله الناس, لكن هناك جانبا من المسئولية تتحمله الإدارة المسئولة, وجانبا ثالثا يتعلق بالآلة. هذه العناصر الثلاثة إذا توافرت توافرت عناصر الأمان, وإذا غاب أحدها تقع الكوارث. وبالنسبة لحوادث القطارات, نذكر منها كارثة كفر الدوار, حيث خرجت القاطرة عن القضبان, واخترقت السور الخرساني, واقتحمت الميدان المطل علي المحطة, مما أدي إلي وفاة أكثر من47 مواطنا, وإصابة80. كان ذلك عام1998, ولم تمض أشهر قليلة حتي حدث صدام بين قطارين علي خط واحد عند البدرشين, أسفر عن مقتل62, وإصابة66 مواطنا, ودون أن ننسي حادث قطار قليوب, والتصادم بين قطاري الإسكندرية والمنصورة, سنشير إلي حادث قطار الصعيد الذي جري عام2002 وأدي إلي مقتل361 فردا, وضعفهم من الجرحي. وبالنسبة للنقل الجوي هناك كارثة سقوط طائرة نيويورك في أكتوبر1999 في المحيط الأطلنطي, ووفاة212 شخصا, وفي عام2002 تحطمت طائرة بوينج بالقرب من مطار قرطاج التونسي وراح ضحية الحادث26 راكبا بخلاف الجرحي من بين عدد الركاب البالغ62 راكبا, وفي عام2003 سقطت طائرة بوينج تابعة لشركة فلاش إيرلاينز علي مسافة8 كيلومترات من شرم الشيخ, وبلغ عدد الضحايا138. وإذا كانت كارثة العبارة السلام98 هي الأسوأ, فقد سبقها غرق العبارة سالم إكسبريس عام1991, ولقي أكثر من500 راكب مصرعهم, وبعد ذلك بسنوات اصطدمت العبارة السلام95 بسفينة شحن قبرصية عند المدخل الجنوبي لقناة السويس. ومن الملاحظ في هذه الكوارث الخط التصاعدي لرقم الضحايا, وتراكم الأخطاء التي مهدت الطريق لها. والآن.. وبعد أن وصل رقم ضحايا كارثة العبارة السلام98 إلي ألف ضحية, هل ننتظر أن يتزايد رقم الضحايا, وأن يضيق المدي الزمني بين كارثة وأخري؟ أم سنعمل جميعا علي تقديم المسئولين المباشرين وغير المباشرين للمحاكمة؟ وحسنا فعل النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود عندما سارع باستئناف الحكم الصادر ببراءة المتهمين في قضية هذه العبارة. عن صحيفة الاهرام المصرية 10/8/2008