د. فتحي النادي الإدارة هي حبي وعذابي في آن معاً.. أصبحت بالنسبة إلي أسلوب حياة، أفسر بقواعدها كل ما يدور حولي كما أقيس عليها مستويات الفشل والنجاح.. وهذه محاولة لكي أرسخ هذا المفهوم، لعل الله أن يشفي الوطن من »سوء الإدارة« فننقذ البقية الباقية من الموارد التي نهدرها بجهل وسفه. الوزارة التي لا يشملها أي تشكيل وزاري كثيراً ما تساءلت عقب كل تشكيل وزاري في مصر: »أين وزارة التنمية البشرية؟«، وماذا لو سبقت مصر باقي الدول في استحداث وزارة بهذا الاسم تؤكد بها توجه الدولة نحو التركيز علي جودة المصري وتنمية مهاراته وصقل سلوكياته؟ وقد يقول قائل إن تلك هي المسئولية المباشرة لوزارات بعينها مثل التخطيط والقوي العاملة والهجرة والتعليم بشقيه العام والعالي والتنمية الإدارية، فإني أقول إن ما أعنيه أكبر وأشمل من ذلك بكثير، وما أعنيه هو خطة قومية شاملة لتطوير الإنسان المصري لكي يواكب المتغيرات السريعة والمتلاحقة حولنا ومتطلبات القرن الجديد بعد أن أهملنا كثيراً تنمية القدرات والمهارات والجدارات بل وما طرأ علي الشخصية المصرية من تغيرات خلال النصف قرن الماضي حتي كدنا أن نفقد هويتنا المميزة، والوزارة التي أطالب بها تختلف في مفهومها وتوجهها عن »وزارة التنمية الإدارية« التي تعني بتطوير وتحديث العمل في الجهاز الإداري للدولة ورفع المستوي الفني ومهارات تقديم الخدمات للجمهور. بلدان العالم المتقدم يطلقون علي الناس »رأس المال الفكري« إعلاء لقيمة الإنسان في التفكير وطرح الأفكار والمشاركة بدور فاعل وإبداء الرأي في المشكلات التي تواجهه. لم تعد تسمية »الموارد البشرية« ولا »رأس المال البشري« تسمية مقبولة تعكس »الاستثمار« المستمر في البشر الذي تنتهجه الدول المتقدمة لكي تجني من وراء ذلك عائداً عالياً مجزياً لمواطنيها وللدولة علي السواء. إن بلداناً كالصين (مليار و307 ملايين تقريباً) والهند (مليار و80 مليوناً تقريباً) وإندونيسيا (242 مليوناً) ولا أقول اليابان التي يعتبر مواطنوها نموذجاً يقاس عليه ولاء المواطن وولاؤه في أي دولة أخري لا تشكو من كثرة عدد مواطنيها، ولكنها تستغل تلك الكثرة في دفع عجلة التنمية وزيادة الإنتاج وتحسين جودة الحياة لمواطنيها عن طريق تحسين جودة المواطن وضبط سلوكه لكي ينسجم مع الصورة التي تريد الدولة أن تعكسها في تعاملاتها مع العالم الخارجي علي المستويين السياسي والاقتصادي، آمنت تلك الدول. ومعها الولاياتالمتحدةالأمريكية أن الصناعات الصغيرة هي البوابة الملكية لحل مشاكل البطالة وكافة مردوداتها السلبية علي كيان المجتمع (99% من المنظمات في أمريكا منظمات يعمل بها أقل من 500 موظف وعامل)، ويكفي أن نعلم أن أكثر من 80% من المنتجات الجديدة التي تطرحها الصين في أسواق العالم تنتجها مشروعات صغيرة معظمها داخل المنازل التي تتحول بطريقة منهجية إلي وحدات إنتاجية صغيرة كل أفرادها ينتمون لنفس الأسرة التي قوامها الأب والأم والأبناء علي اختلاف أعمارهم والذين لا يعطلهم العمل عن الدراسة بمراحلها المختلفة. وحتي لا يكون الكلام عاماً واتساقاً مع واجبي كمواطن الإدارة بالنسبة له ليس مادة يدرسها لطلابه وإنما منهج حياة، فإني أضع تصوراً لمهام تلك الوزارة التي أدعو إلي إنشائها بقدر ما يسمح به المجال والمساحة: * تحديد التغيرات السلبية التي طرأت علي المواطن المصري بفئاته المختلفة خلال العقود الخمسة الماضية وأسبابها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. * تحديد متطلبات »عصر العولمة« نتيجة للتأثيرات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، والمهارات والجدارات والمستويات السلوكية »للمواطن الصالح« التي نأمل في أن يتميز بها المصريون لكي يصبحوا مشاركين لا متفرجين وتتسق مع ثقافتنا وقيمنا وشخصيتنا. * وضع خطة قومية شاملة بأهداف محددة ومؤقتة توقيتاً واقعياً يأخذ في الحسبان الإمكانات المتاحة وتلك التي ينبغي توافرها علي المدي الطويل، وتحديد الأدوار المختلفة لكل وزارة معنية ومسئوليتها في تحقيق تلك الأهداف، وتضمينها أهداف كل وزارة لتصبح »ثقافة قومية عامة« تتبناها الوزارات والمدارس والجامعات والنقابات العمالية والاتحادات النوعية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال. * وضع آليات التنفيذ والمتابعة ومراقبة التنفيذ لاتخاذ القرارات التصحيحية المناسبة في الوقت المناسب لتفعيل التنفيذ، كذلك متابعة التجارب العالمية في التنمية البشرية والقيم المضافة التي يمكن عن طريقها إعلاء قيمة الفرد المنتج وصقل شخصيته وضمان ولانه وانتمائه وإيمانه بقضايا بلده ومشاركته بفهم ووعي في نهضتها. * تنظيم الحملات الإعلامية في كافة وسائل الإعلام المنشور والمرئي، وعقد الندوات، وحلقات المناقشة لنشر الخطة القومية لتطوير الموارد البشرية ومناقشتها، وخلق »مرجعية« تضم المتخصصين في كل عنصر من عناصر الخطة يلجأ إليها عند الحاجة. * وضع خطة قومية للتدريب الفني والإداري للمستويات المختلفة للمواطنين وأصحاب الأعمال الصغيرة علي وجه الخصوص، ومداومة الاستثمار في التدريب لرفع مستوي العاملين بما يعود عليهم وعلي الاقتصاد القومي بالعائد المجزي الذي يعوض ما تم إنفاقه علي التدريب. * التفكير الابتكاري فيما يختص بمشاكل التنمية البشرية وأولها الأمية التي تقف عائقاً أمام كل جهود التنمية والمشاركة والتمكين واستخدام التكنولوجيا، وكلها قواعد راسخة للتنمية الحقيقية في أي مجتمع وحتي لا نضع العربة أمام الحصان فنسعي لإنشاء الحكومة الإلكترونية قبل أن نعد الإنسان الذي يستوعبها ويتعامل معها. * تفعيل دور المجتمع المدني، واعتباره قاطرة التنمية الإنسانية لارتباطه بالقاعدة الشعبية في كل مجالاتها، وقدرته علي التأثير في المجتمعات التي يخدمها، وتوافر إمكانيات اكتشافه للمواهب القيادية بين المستفيدين من خدماته للقيام بدور في نشر ثقافة »رفع جودة الإنسان« في مصر. * تنمية قدرات الخلق والابتكار عن طريق طرح منهجي لمشاكل المجتمع، وتشجيع الناس في كل مؤسسة أو مدرسة أو جامعة أو حي علي مناقشة المشاكل وتحليلها ووضع الحلول العملية التي تضمن حلها بمشاركة إيجابي منهم والتزام بمنهج يضمن عدم تكرار المشاكل وتجنب حدوثها. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن جميع الدول العربية وليس مصر وحدها في أمس الحاجة إلي مثل تلك الوزارة، وأي قراءة سريعة لتقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأممالمتحدة كفيلة بإظهار مدي الفجوة الواسعة بين ما ينبغي أن يكون عليه حال الناس وما هو كائن بالفعل في أوطاننا، وتلك قصة أخري. عن صحيفة الوفد المصرية 2/3/2008