ابن خلدون وكأس الأمم الإفريقية... د. علي الدين هلال تعود صلتي بفكر ابن خلدون الي عام1961 عندما كنت طالبا بالجامعة وأعددت بحثا عنه تحت اشراف استاذي د. حامد ربيع, ومن وقتها تعلمت من هذا المفكر العظيم الذي يعتبر بحق مؤسس علم الاجتماع, أهمية استخدام العقل والتفكير العلمي لفهم ما يحيط بنا من ظواهر وأعود إليه من حين لآخر أقرؤه وأتعلم منه وأعتبر. وعندما انفجر بركان الفرح لدي ملايين المصريين ابتهاجا بالانتصار الذي حققه فريق بلادهم في كرة القدم وعبروا عن ذلك بمختلف مظاهر الاحتفال والبهجة آثار البعض سؤالا: كيف نفسر ذلك؟ وكيف نسي المصريون مشكلات حياتهم اليومية, وعبر بعضهم عن اندهاشه بل وصل الأمر الي التساؤل عما اذا كان ذلك يعتبر دليلا علي تفاهة المصريين, وجاءت ردود الفعل هذه وكأن فرحة المصريين أفسدت جو الكآبة والاحباط الذي يحرص البعض علي ايجاده وعلي تنمية الشعور لدينا بأننا مجتمع فاشل ينهشه الفساد من كل جانب وغير قادر علي الانجاز أو التغيير, ووجدت نفسي أعود الي ابن خلدون ووجدت لديه ثلاث أفكار رئيسية تسمح لنا بأن نضع هذا الحدث في سياق تاريخي واجتماعي أكبر. الفكرة الأولي تتعلق بمفهوم التاريخ وأحداثه, فقد اهتم ابن خلدون بتطور المجتمعات والقوانين والقواعد التاريخية التي تحكم هذا التطور, ووصل من استيعابه لهذا التطور الي أنه اعلم أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من أحوال, ويضيف أن فهم التاريخ ليس بظاهره من قصص وحكايات ولكن جوهره هو البحث في العلل والأسباب لأن البحث في التاريخ يوقفنا علي أحوال الماضي من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياساتهم حتي تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا, ويؤكد ابن خلدون أن التاريخ ينطلق من الحاضر لفهم الماضي وأن الهدف من معرفة التاريخ هو البحث في تطور الأوضاع الاجتماعية وتغيرها من حال الي حال والأسباب التي تدعو الي ذلك. والفكرة الثانية التي يؤكدها ابن خلدون هي أن التاريخ لا يعرف الجمود أو الركود بل تحكمه قوانين التطور والتغير, ويقول فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطات لاتزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة, ويقول أيضا إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم علي وتيرة واحدة ومنهاج مستقر انما هو اختلاف علي الأيام والأزمنة وانتقال من حال الي حال, وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول, ومعني ما تقدم أن التغير هو سنة الحياة وأن المجتمعات تتحول في أوضاعها وأخلاقها وظروفها كما أنها تنتقل من مراحل قوة ومنعة الي أوقات ضعف وخمول. أما الفكرة الثالثة وهي بيت القصيد فهو دور العصبية في بناء الدول وتماسك المجتمعات, يقول ابن خلدون: إن العصبية هي محرك الجماعات وإن الدول تقوم علي العصبية التي هي روح التوحد والترابط والتكاتف, ويميز ابن خلدون بين مفهومين للعصبية: العصبية بمعني صلة الدم والنسب التي تربط بين أبناء العشيرة, أو القبيلة الواحدة, والعصبية الاجتماعية التي تقوم علي علاقات التحالف والولاء والمصالح المشتركة والتي يمكن التعبير عن مضمونها اليوم بمفهوم الوطنية أو الانتماء. إن البركان الذي فجر فرحة المصريين كشف عن حقيقة الانتماء لمصر وأسقط في لحظة واحدة كل دعاوي المتحدثين عن ضعف انتماء الشباب لبلدهم وفقدانهم الثقة بها, لقد جاءت فرحة الشعب المصري كتعبير عن روح التكاتف والتوحد التي تربط بين أبناء الوطنية الواحدة أو العصبية الواحدة بتعبير ابن خلدون, وعبرت هذه البهجة المصرية عن شعور الجماعة بأن بعضا من أبنائها الذين جاءوا من مختلف محافظات الجمهورية ومن قلب المجتمع من مدن وقري استطاع أن يحقق هذا الفوز الكبير, وزاد من الشعور بالفرح أن هذه المجموعة من الشباب تمارس اغلبيتها الساحقة لعبة كرة القدم في الدوري المصري ويقوم بتدريبها مدرب مصري, وأدي ذلك الي الفخر بالانتماء الي تلك الجماعة الوطنية والاعتزاز بالانتساب إليها, وفي هذه اللحظات تزول الحواجز بين الفئات وينخرط الجميع في بوتقة الاندماج الوطني والحمية المتبادلة وتجمع بينهم روح جماعية عارمة. ولابد أن نتذكر أن تلك الروح الجماعية لم تقتصر علي المصريين داخل مصر, بل امتدت الي كل مكان يعيش فيه المصريون والعرب, وشهدت كل الدول العربية مظاهر جماعية للفرحة والابتهاج وكذا العواصم الأوروبية التي تعيش فيها جاليات عربية, وجاءت تلك المظاهر تأكيدا لمعني العاطفة العربية المشتركة والعروة الوثقي التي تربط بين العرب برغم كل مظاهر الخلافات السياسية بين دولهم ورؤسائهم. ولابد أن نذكر أيضا, أن تلك اللحظات التوحيدية في التاريخ لا تستمر طويلا إلا اذا استخلص المجتمع دروسها وعبرها, وقامت الحكومات ببلورتها في سياسات وبرامج عمل, والدروس واضحة أبرزها أنه لن يبني مصر غير المصريين وأن الاعتماد علي القدرات الوطنية هو أساس كل بناء, وأن المجتمع المصري يزخر بالقدرات الكامنة الموجودة بين بسطاء الناس, وأن الانضباط والجدية والمثابرة هي متطلبات ضرورية للنجاح, وأخيرا أن تسود روح الأسرة الواحدة وأن تقوم العلاقات بين بعضهم البعض علي أساس الثقة المتبادلة وأن ندرك جميعا أن تحقيق النصر أو الوقوع في براثن الهزيمة هي مسئولية مشتركة, وأن نقطة البدء في كل هذا هي الثقة بالذات والإيمان بالقدرة علي الإنجاز. عن صحيفة الاهرام المصرية 16/2/2008