مرة أخرى يكتشف الرأى العام، والإعلام، وكتاب السياسة والأدب مكانة لعبة كرة القدم عند المصريين. لكن تفسير الخروج ملايين إلى الشوارع والميادين احتفالا بفوز فريق لكرة القدم بمباراة بأن «الشعب لا يفرح سوى فى كرة القدم» أو أن الشعب يحتاج إلى الفرحة.. هذا تفسير صحيح لكنه قاصر وغير دقيق. يعكس نظرة سطحية لكرة القدم، بينما اللعبة تستحق دراسة أعمق.. حتى نفهم لماذا تنفجر حالة الانتماء عند المصريين فى كرة القدم. وقبل ذلك علينا أن نسأل: هل ينابيع الانتماء تنفجر فقط عند الشعب المصرى كلما كانت هناك مباراة مهمة.. أم أن تلك الحالة تظهر فى شعوب أخرى لا تعانى من الفقر والحرمان والظلم وغياب العدالة والحرية والديمقراطية؟! شعوب العالم كلها تخرج وتحتفل فى مظاهرات هيستيرية، بعد الفوز ببطولة أو فى مباراة كبرى أو عند التأهل لنهائيات كأس العالم. فعندما فازت فرنسا بكأس العالم عام 1998 خرج ملايين الفرنسيين إلى الشانزليزيه للاحتفال، وشاركهم الرئيس جاك شيراك. وفى مونديال كوريا واليابان كانت صورة الملايين فى الشوارع من ملامح البطولة.. فهل يعانى الشعب الكورى واليابانى من الفقر.. فيعوض ما ينقصه بكرة القدم ويمسك بشماعة الفوز فى مباراة كى يثبت أنه شعب متحضر ومتفوق ومتميز؟! هذا بصورة أو بأخرى تفعله كرة القدم فى كل الشعوب وكل الدول، إلا أن المواطن المصرى بات يرى فريقه، سواء المنتخب أو النادى، بات يراه مشروعه القومى، وجماعته الخاصة.. ففوزه انتصار له وخسارته تعنى هزيمته.. وهو يرى نتيجة مشاركته فى هذا المشروع القومى الذى هو المنتخب فورا، يرى النتيجة فى الحال، ويعتبر نفسه صاحب الانتصار، ويعتز بذلك ويفخر به ولو لم يعلنه.. والمواطن المصرى يرى أنه لا يخسر فى الانتخابات السياسية، لأنه لا يشارك فيها أصلا، فكيف يخسر شيئا لم يفعله، وهو ايضا لا يفوز فى الصحة أو فى التعليم، ولا ينتصر فى عمله على أنصاف المواهب وأصحاب الواسطة.. وهو يرى الفريق ملكا له. وبقدر ما فى قلبه من انتماء لمصر إلا أنه لا يجد حدثا عاما يحرك هذا الانتماء سوى كرة القدم.. وهذا هو الفارق. فشعوب العالم كلها تفعل ما يفعله الشعب المصرى فى انتصارات كرة القدم.. لكن شعوب العالم تفعل ذلك ترويحا، ونزهة، وتمارس الانتماء فى كل لحظة بالعمل والعلم، والاهتمام، فى السياسة والاقتصاد والشئون العامة. بينما لا يمارس المصرى الانتماء العام سوى فى الأحداث الجسيمة التى يصنعها القدر.. أو فى مباريات الكرة التى يحقق من خلالها انتصاره الغائب الذى يستحقه يوميا؟! ألمانيا.. ألمانيا عقب فوز ألمانيا على البرتغال فى كأس العالم عام 2006 وحصول الفريق الألمانى على المركز الثالث، احتشد آلاف الألمان وأخذوا يهتفون: «دويتشلاند.. دويتشلاند» ألمانيا.. ألمانيا وهو هتاف كان يرجف العالم فى مطلع الثلاثينيات مع بدايات الحزب النازى الذى أسسه أودولف هتلر.. لكن نفس العالم تابع هذا الهتاف بمزيج من الانبهار والإعجاب؟ هل كان المركز الثالث سببا لتلك السعادة الغامرة التى أصابت الشعب الألمانى. هل كان ذلك ما يريده الألمان أو ما يحلمون به؟! إن ظاهرة السلوك الألمانى العام فى المونديال أهم الظواهر التى شدت انتباه عشرات الصحفيين والكتاب الأجانب الذين تابعوا كأس العالم من قلب الحدث.. الفوز بالمركز الثالث وتحقيق ما لم يتوقعه نقاد وخبراء الكرة الألمانية ليس هو سبب فرحة وسعادة الشعب الألمانى.. لقد أرادت ألمانيا من تنظيمها للبطولة أن تبلغ العالم رسالة، تقول إنها نفضت عنها أخيرا رماد الحرب العالمية الثانية، نفضت عنها ما أشيع عن شعبها بأنه شعب لا يعرف الابتسامة ولا يعترف بروح الدعابة ولا يرغب فى أن يعرفها، ويكره الغرباء، ولا يحب أن يستقبلهم! كانت ألمانياسعيدة بما حققته فى هذه البطولة من نجاح تنظيمى هائل اتسم بالدقة والانضباط وهما صلب الشخصية الألمانية، وسعيدة باحتضان مواطنها للعلم، حتى قيل إنها المرة الأولى التى يرفع فيها الشعب الألمانى علم بلاده رمز العزة والكرامة الوطنية، بمثل هذا الفخر والحب والسعادة. فمنذ 60 عاما لم يعرف الألمان مثل تلك الصيحة الواحدة والهتاف الواحد.. لكن فى هذا المونديال تغيرت ألمانيا وتغير الألمان وتغيرت نظرة العالم لهذا الشعب.. عادت إليهم الثقة فى النفس وعادت ثقة العالم فى الألمان، وقد استرد الشعب الألمانى الكثير من الكبرياء والقدرة على التعبير عن هذا الكبرياء. وتعلم الألمان فى هذا المونديال كيف يستقبلون الشعوب الأخرى وكيف يبتسمون فى الشارع، وكيف لا يخجلون من دموعهم؟! وكل شىء فى ألمانيا كان مزينا بألوان العلم. البشر والسيارات والمنازل والمقاهى والقطارات والطائرات. وتغير المزاج الألمانى. فالناس تبتسم فى الشارع وتشعر بالحماس وبالاسترخاء. والقلوب عامرة بالترحيب.. فهناك آلاف الجنسيات الاخرى من المشجعين الذين يحملون أعلام بلادهم، ويقابل الألمان ذلك بالهتاف، ويرفع المزيد من الأعلام التى تعكس تنامى الشعور بالكبرياء الوطنى! 60 عاما من الشعور بالخجل القومى ظلت قابعة وجاثمة على صدورالشعب الألمانى منذ الحرب العالمية الثانية، فجاءت بطولة كأس العالم لتزيل هذا الشعور، ولتسمح لألمانيا بالتعبير عن كبريائها الوطنى ولتسمح للشعب الألمانى بالتعبير عن روحه المرحة وحبه للحياة وللبشر وللشعوب الأخرى. البديل المشروع للحرب علينا أن نفهم أولا ما هى كرة القدم. فهى ليست مجرد بالونة منفوخة يطاردها 22 لاعبا فى صراع ممتع ومرير وعنيف أحيانا. ويمكن أن يحل بمنح كل لاعب بالونة، كما قالت فى يوم من الأيام الممثلة الإيطالية القديمة جينا لولو بريجيدا.. علينا أن نفهم أولا أسباب شعبية كرة القدم، وهى كثيرة ومتنوعة، لكننا سنكتفى بإشارات.. فالشغف باللعبة أعمق وأوسع من الفطرة والغريزة التى تفسر أصل الاهتمام بالكرة بخروج الرجل للمطاردة والصيد فى العصور القديمة. فكرة القدم ببساطة هى صورة من صور الصراع المشروع بين البشر، أو هى البديل المشروع للحرب.. والحرب غريزة بشرية أيضا.. وكرة القدم هى مباراة بين فريقين يسعى كل منهما إلى احتلال أرض الآخر.. بامتلاك الكرة وحيازتها وبتكتيكات وتحركات جماعية تتجلى فيها مهارة الفرد وموهبته وقيادته وكرة القدم بتعبير آخر تعد صورة من صور الصراع الجماعى المتكرر وعن الصراع الجماعى يقول جورج زيفلير الصحفى الفرنسى والكاتب فى الفيجارو: «منذ الأزل والمظهر الذى يحكم العلاقات الإنسانية هو الكفاح، فعندما تهاجم جماعة ما جماعة أخرى فإن رد المجموعة الأخرى هو حتما المواجهة ومنها يأتى التصادم والعنف»! لقد تغيرت أوجه الجمال فقديما كانت المباراة مبارزة فردية وصريحة وواضحة بين بعض المواهب وبعض المواهب فى مساحات زمنية رحبة وفى مساحات واسعة، وباتت الآن المباراة تجسيدا لفكرة الصراع الجماعى الذى يستند على التكتيك والدهاء والقوة والسرعة فى كل شىء، ويجرى فى مساحات زمنية قصيرة ومساحات مترية ضيقة.. وهو صراع مستمر طول زمن المباراة. صراع من أجل إحراز هدف، ولا يمكن أن تعرف مبكرا متى ينتهى هذا الصراع أو لمصلحة من، وتبقى منتظرا حتى النهاية لتعرف النتيجة.. نتيجة كل هجمة ونتيجة كل مباراة.. وهو من أهم أسرار كرة القدم ومن أهم أسباب شعبيتها الطاغية مقارنة باللعبات الجماعية الأخرى مثل كرة السلة والكرة الطائرة وكرة اليد حيث تعلم جيدا وأنت تشاهد مبارياتها أن كل هجمة تقريبا ستنتهى بنقطة أو بهدف، بينما فى كرة القدم لايمكن أن تنتهى كل هجمة لفريق بهدف! تلك اللعبة أعمق وأوسع وأهم من أن تسطح، أو تعتبر هزلا وحصة ألعاب. فالمباراة الواحدة تكون أحيانا مثل دورة ألعاب فى الثقافة والسياسة والتاريخ والعسكرية والعلم والتكنولوجيا.. لم تعد الحروب حلا وحيدا أو خيارا وحيدا عند الدول وعند شعوبها بحثا عن علم التفوق ورفع رايتها. كرة القدم تجمع القلوب والشعوب، بالتأكيد. إلا أن شعوب العالم الآخر، يجمعها أيضا السياسة، والعمل، والقضايا الوطنية. وهم يرون فى مباريات كرة القدم فرصة للترويح والخروج على الروتين، والقانون الصارم.. وهناك دراسة قام بها الباحث الفرنسى كريستيان برومبرجر الأستاذ بجامعة بروفانس جنوبفرنسا عن كرة القدم كظاهرة تنسحب آثارها على الفرد والمجتمع وشاركه باحثان آخران وكانت الدراسة على جماهير مارسيليا ونابولى وتورينو واستغرقت 10 سنوات وقد درس الباحثون سلوك الجماهير فى ملعب كرة القدم وتوصلوا إلى أن الملعب يجمع بين المؤيدين وهم الجمهور وأبطالهم وهم اللاعبون وأن هذا الملعب أحد الأماكن القليلة التى يستطيع فيها الانسان أن يفلت من القانون والضوابط والقيود الصارمة التى تنظم حياته فى الشارع والمدرسة والعمل والمنزل ولذلك فهو فى الملعب ينفلت ويفرح ويصرخ وينفعل ويغضب وسط سلوك جماعى مماثل.. وهذا السلوك الجماعى مثير للبهجة فى جميع الأحوال بما فيه من مشاركة واتفاق!