بعد كل فوز يحققه فريق مصرى أو يحققه المنتخب، وما يتبعه من احتفالات جماهيرية صاخبة، يجرى تسويق بعض الأفكار السياسية والاجتماعية، ومنها أن تلك الاحتفالات نتيجة أننا نكسب فى كرة القدم فقط، ونخسر فى كل شىء غيرها. وكثيرون رددوا فى تلك الأيام بمناسبة بطولة القارات: «كرة القدم هى التى تفرح الشعب المصرى».. ومن تلك الأفكار التى تسوق فى البطولات والمباريات التى يفوز بها المنتخب، هذا الربط بين شعبية اللعبة وعشقها وبين الحرية والديموقراطية والحلم بها.. وبالنسبة للفكرة الأولى الخاصة بأن الشعب المصرى يفرح بكرة القدم فقط وبنتائجها، يظن أصحاب تلك الفكرة أن شعوب العالم الثالث تحتفل بانتصارات كرة القدم، لأنها الساحة الوحيدة التى يمكن أن تحرز فيها فوزا.. فهى غالبا شعوب مكبوتة ومهزومة فى ساحات السياسة، والديموقراطية والحرية والعلوم والاقتصاد والصحة، والتجارة، وحتى فى البيئة. وهم يرون أن شعوب العالم الثالث يمكن أن تصنع فريقا قويا فى كرة القدم، لكنها عجزت عن صناعة سيارة أو دراجة..ويمكن للدول المهزومة فى تلك المجالات أن تتفوق فى تصدير أفضل اللاعبين والمواهب، كما فعلت الكاميرون ونيجيريا وساحل العاج وغانا. ولكنها تستورد قمحها، وطعامها. هل تلك النظرية التى يجرى تسويقها صحيحة وتفسر أسباب تلك الاحتفالات الصاخبة التى تنطلق فى الشوارع والميادين؟! الصحيح أن كرة القدم هى الشىء الوحيد الذى يجتمع حوله كل المصريين، وأن اللعبة تساوى بين الوزير وبين الغفير، وبين الغنى وبين الفقير. لكن غير الصحيح هو تفسير الفرحة العارمة بأنها نتيجة الهزائم الدائمة فى شتى المجالات، وهو أمر نفترضه على المصريين ونفرضه، ولا نراه فى الشعوب الأخرى، مع أنها من دول تربح فى كل شىء. فمن لا يتذكر خروج ملايين فى اليابان وكوريا الجنوبية إلى الشوارع والميادين فرحا بفوز منتخبيهما.. هل يعانى البلدان من الفقر والاقتصاد الضعيف وغياب الحرية والديموقراطية؟ لقد تكرر نفس الأمر فى ألمانيا، فكان الملايين يخرجون ويحتفلون بصخب وضوضاء وهيستريا بعد كل فوز يحققه الفريق الألمانى، وهناك وثائق مصورة لاحتفالات الملايين، وهم يفعلون ذلك فخرا واعتزازا، وليس لأن ألمانيا تعانى.. فقد أصبحت الاحتفالات الشعبية الكبيرة بالانتصارات فى ساحة كرة القدم، أكبر دليل فى القرن الحادى والعشرين على أن اللعبة هى البديل المشروع للحرب، منذ مرارة الحربين العالميتين الأولى والثانية.. إن كرة القدم بتعبير آخر تعد صورة من صور الصراع الجماعى المتكرر. وعن الصراع الجماعى يقول جورج زيفلير الصحفى الفرنسى والكاتب فى الفيجارو: «منذ الأزل والمظهر الذى يحكم العلاقات الإنسانية هو الكفاح، فعندما تهاجم جماعة ما جماعة أخرى، فإن رد المجموعة الأخرى هو حتما المواجهة، ومنها يأتى التصادم والعنف»! وهكذا الحرب غريزة عند الإنسان، ولكنها باتت مكروهة، وتخشاها البشرية، وبدلا من تفريخ شحنات الرغبة فى المواجهة بين الدول، أصبحت ساحة الملعب هى البديل المقبول والمحتمل لذلك، بكل مافى تكوين الفريق وأسلحته، ممايعبر عن تكوين الجيوش وأسلحتها. وقد أصبحت الدول مختصرة فى فرق. والمواهب الفردية معبرة عن الصواريخ والطائرات. والأهداف وهز الشباك معبرا عن الهزيمة والتسليم بها فى ساحة الحرب.. لكن هناك فى العالم الآخر لايخلطون الأمور، فهم لايلعبون فى الحرب، ولايحاربون فى اللعب! لكن كرة القدم فى دول العالم الأول التى تحظى بالحرية والديموقراطية، أصبحت منذ 50 عاما ساحة للخروج عن قيود القانون النظام التى تحيط بالشعوب المتقدمة فى الشوارع، وفى أعمالهم وفى حياتهم اليومية.. ففى الملعب يصرخ المشاهد، ويقف ويهتف، ويسب الحكم رمز السلطة، والقيود، دون أن يحاسبه أحد. إلا أن الأمر يختلف تماما فى دول العالم الثالث، فكرة القدم هى اللعبة التى يمارس فيها المواطن حريته بلاحدود.. وهذا المواطن المشاهد ليس فى حاجة لأن يسب الحكم باعتباره رمزا للسلطة، لأن السلطة تهاجم يوميا فى الإعلام بمنتهى الحرية، والسلطة هنا ليست بالضرورة هى الحكومة والوزير، ولكنها أى سلطة فى أى موقع ولو كانت سلطة «الزوجة» فى المنزل.. لكن مايمثل جوهر وأهمية كرة القدم فى دول العالم الثالث، أن المواطن المشاهد والمشجع يمارس من خلال شغفه باللعبة حرية التأثير، وليس حرية التعبير، فهو قادر على تغيير لاعب، ورئيس اتحاد، ومدرب.. بصوته أو بصرخته.. وهذا أحد الفروق الجوهرية بين كرة القدم فى العالم الآخر، وبين كرة القدم.. فى العالم الثالث؟! كرة القدم أولا وأخيرا أعمق من أن تكون لعبة.. فى حصة ألعاب؟!